حلب – يزن ذو العشرة أعوام صار المعيل الوحيد لأمه وإخوته الثلاثة، بعد مقتل والده بقصف من القوات الحكومية في ريف حلب الجنوبي، قبل ثلاث سنوات، كما أنه المسؤول عن توفير مكان آمن يقيمون فيه.
نزح يزن مع عائلته نتيجة العمليات العسكرية حينها، إلى إحدى حقول الزيتون الممتدة بين منطقتي اعزاز وعفرين في ريف حلب الشمالي، وترك مقاعد الدراسة ليلتحق بعمل يمكّنه من الإنفاق على عائلته، ومنذ ذلك الوقت لم يعرف كيف يكون التعليم في مكان إقامته الجديد ولا الأجواء الدراسية هناك.
إخوته أيضاً، وقعوا ضحية ظروف معيشية قاسية تركتهم خارج أسوار المدرسة، إذ لا قدرة للعائلة على شراء مستلزمات التعليم من ألبسة وقرطاسية وغيرها. يزن وإخوته يشتركون مع آلاف الأطفال السوريين، الذين أجبرتهم الحرب على ترك مقاعد الدراسة، أو عدم الالتحاق بها أصلاً، وأصبحوا في عداد الأميين.
وبحسب تقرير لمنظمة “اليونيسيف” نشر في آب/أغسطس 2019، إن “أكثر من 2 مليون طفل -أي أكثر من ثلث الأطفال السوريين- هم خارج المدرسة”، فيما تقدر عدد الأطفال الذين يواجهون خطر التسرب بنحو “1.3 مليون طفل، ويحتاج واحد من بين ثمانية أطفال في كل صف دراسي إلى دعم نفسي واجتماعي مختص لتحقيق التعلم الفعال”.
نازحون بلا خطط
تسببت المعارك العسكرية بين فصائل المعارضة السورية والقوات الحكومية المدعومة من روسيا وميليشيات أجنبية، والتي سيطرت دمشق بموجبها على عشرات القرى والبلدات في أرياف حلب وإدلب، بنزوح أكثر من 900.000 شخصاً، 60 % منهم أطفال، بحسب تصريح “ينس لاركيه” المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في 21 شباط/ فبراير الحالي.
اضطر آلاف النازحين جراء تلك العمليات العسكرية إلى افتراش الأراضي الزراعية والمبيت تحت الأشجار، وسط انخفاض حاد في درجات الحرارة وغزارة الأمطار، وأصبح حلم تلك العائلات مكان آمن ودخل مادي يقتاتون عليه، أما تعليم أطفالهم فأصبح خارج دائرة اهتمامهم، على الأقل في هذه المرحلة الصعبة من حياتهم.
هذه الظروف دفعت بالعائلات النازحة إلى تشغيل أطفالها كباعة متجولين في الشوارع، أو العمل في مهن مختلفة، غالبيتها لا تتناسب مع أعمارهم، للاستعانة بهم على قسوة الحياة. إذ بلغ عدد الأطفال المتسربين والمنقطعين عن التعليم في شمال غرب سوريا نحو 250.000 طفل، بسبب التهجير في الحملة الأخيرة أو ظروف أخرى، بحسب ما ذكر لـ”ماري” عادل حديدي وزير التربية والتعليم في حكومة الإنقاذ.
في مقابل ذلك، تشهد المنطقة غياب دور الجهات المسؤولة عن إيجاد خطط حقيقية لمساعدة الأطفال وإلحاقهم في برامج التعليم، بما في ذلك مديريات التربية التابعة للمعارضة في ريف حلب الشمالي، كما كشف الأستاذ مصطفى الخلف، مدير إحدى المجمعات التربوية في ريف حلب الشمالي لـ”ماري”.
وعزا الخلف غياب الخطط لسببين، الأول: “إن النازحين الذين قدموا إلى ريف حلب الشمالي مازالوا في حالة تنقل داخلي بحثاً عن أماكن للسكن وكذلك بحثاً عن فرص عمل أو أماكن ينشط فيها توزيع المساعدات الإغاثية” مضيفاً “لهذا السبب لم يتم حصر أعداد الأطفال النازحين حتى اللحظة، لوضع خطة لاستقبالهم ضمن المدارس أو إنشاء مجمعات دراسية خاصة بهم”.
أما السبب الثاني، كما قال الخلف: فإن “ريف حلب الشمالي يضم مليون نازح، نصفهم من الأطفال، تم استقبال قسم منهم في المدارس المتوفرة، وإنشاء مجمعات تعليمية لهم، ولكن لا مجال لزيادة هذا العدد ضمن المدارس والمجمعات الحالية، ولا يتوفر مدرسين إضافيين أو رواتب لهم” مشيراً إلى أن “الغرفة الصفية الواحدة تضم نحو 50 طفل”.
مبادرات فردية
وفي مقابل غياب الجهات المسؤولة عن إيجاد خطط حقيقية لمساعدة الأطفال وإلحاقهم في التعليم، برزت مبادرات فردية لناشطين، من قبيل فريق “بسمة نور”، وهو فريق تعليمي أسسه مجموعة من الشباب، يتجول بين المخيمات في شمال غرب سوريا، ويهدف إلى تعليم الأطفال المنقطعين عن التعليم مبادئ القراءة والكتابة.
وبدأ الفريق نشاطه من مخيم الإيمان في ريف إدلب الشمالي، مطلع العام الحالي، والذي يبلغ عدد سكانه قرابة 600 نسمة من أرياف إدلب وحماة، إذ أنشأ خيمة تعليمية تتسع لنحو 90 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 6 و 12 عاماً، بهدف تنظيم دورات محو أمية للأطفال الذين لم يلتحقوا في المدارس، ومتابعة الأطفال المنقطعين نتيجة الظروف الأخيرة، بحسب ما ذكر عبد خليف الظهور، مدير المخيم لـ”ماري”.
وأثمن الظهور جهود “بسمة نور” التعليمي في المخيم، مشيراً إلى أن “ثمة تغيير واضح عند أطفال المخيم بعد زيارة الفريق”، معتبراً أن عزوفهم عن التعليم كان بسبب “أوضاعهم ذويهم المتردية، وغياب البناء المدرسي ومستلزمات التعليم”.
مخيم الإيمان واحد من المخيمات المستهدفة من فريق “بسمة نور” الذي يركز على “تدريس الطلاب في المخيمات البعيدة عن المدارس، وخاصة العشوائية منها، عبر إنشاء خيمة تعليمية في كل مخيم” كما ذكر محمد مازن المسموم، مدير فريق “بسمة نور” لمراسل “ماري”، لافتاً إلى أن الفريق يعمل “بدعم فردي من الأصدقاء فقط”.
وفي مبادرة أخرى، أطلق مجموعة شباب مشروع غراس التعليمي، الذي يهدف إلى تقديم تعليم بديل، عبر إنشاء مدارس ميدانية داخل الخيام، لاستكمال تعليم الطلاب النازحين المنقطعين، يتم فيها تعويض ما فات الطلاب من دروس.
بدأ غراس التعليمي بتأسيس أول مدرسة ميدانية في منطقة أطمة الحدودية بالتعاون مع جمعية بسمة أمل في مطلع العام الحالي، واستكمل عمله لتبلغ عدد المدارس الميدانية التي أنشأها حتى الآن سبع مدارس ميدانية توفر التعليم المجاني لألف طالب من الصف الأول إلى الصف الثالث عبر دورات مكثفة كل واحدة لمدة ثلاثة أشهر.
ويعمل في المشروع 55 متطوع من معلمين وإداريين، كما يعمل المشروع من خلال جمع تبرعات من قبل مغتربين.
على أهمية المبادرات التعليمية لإنقاذ الطلبة المنقطعين والمتسربين، إلا أن وزير التربية في الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف السوري، عماد برق، أبدى في حديثه إلى “ماري” خشيته “من أن يظهر جيل سوري أميّ في ظل انقطاع أعداد كبيرة عن التعليم”.
**
هذا التقرير هو جزء من ملف خاص لـ”ماري” عن قطاع التعليم للأطفال السوريين، والذي ستقوم ماري بنشر مواده خلال الأسبوعين القادمين.