تقارير

سوريا: القطاع الصحي في آخر مراحل السيطرة بعد تفشي “كورونا”

دمشق – شكلت الإجراءات الحكومية المبكرة لمواجهة “كوفيد19″، ارتياحاً عاماً لدى الشارع السوري، وخلقت انطباعاً شعبياً بأن الحكومة عازمةً -على غير عادتها- في مواجهة الجائحة ومنع تفشيها. 

بيد أنّ الواقع الفعلي على الأرض بدد الحلم، إذ أصيب ما يزيد عن 2765 شخصاً بالفيروس حتى مساء اليوم الثلاثاء، كما تعرض ما لا يقل عن 23 ألف للحجر، في أماكن غير صالحة للعزل، وسيئة صحياً، بحسب إحصائيات وزارة الصحة السورية، إلا أن ما رصدته وسائل التواصل الاجتماعي، ومصادر “ماري” يقول بأن الأرقام أعلى بكثير مما تم تسجيله “رسمياً”.
ومنذ شهر تقريباً بدأت الأخبار تتوالى عن حدوث إصابات ووفيات في الكادر الطبي الذي يعاني بفعل الحرب نقصاً شديداً في التجهيزات والأدوية، إضافة لنظام صحي معرّض للانهيار وعاجزاً عن استقبال أعداداً أكبر من المصابين. 

مواجهة الجائحة حكومياً

اتخذت الحكومة السورية قرارات جريئة في بداية جائحة كورونا، ما خفف من انتشار الفيروس، فتم تعليق الرحلات الجوية مع العراق والأردن، كذلك تعليق الدوام بالمدارس والجامعات، وتخفيض نسبة العمالة في المؤسسات الحكومية بنسبة 40% في آذار/مارس، وإيقاف كل وسائل النقل الجماعي العام والخاص داخل المحافظة الواحدة وبين المحافظات في 23 آذار/مارس، ومن ثم فرض حظر تجوال جزئي في كل المناطق في 24 آذار/مارس لمدة شهرين.
إلا أنها وتحت ضغط الوضع الاقتصادي المتأزم خففت الحكومة السورية من تلك التدابير شريطة الالتزام بمعايير السلامة الصحية من قِبل الناس دون وضع ضوابط إدارية تمنع عدم الالتزام، وذلك بدءاً من تاريخ 31 أيار/مايو.

هذا الأمر تبعه عزل مدن بأكملها مثل رأس المعرة وجديدة الفضل والسيدة زينب ومناطق أخرى في ريف دمشق فضلاً عن تسجيل إصابات في مستشفى المواساة الحكومي، والتخوّف من تفشّي الفيروس في العاصمة دمشق المزدحمة بسكّان المدينة والنازحين إليها من محافظات أخرى.

لكن مع تدهور الوضع المعيشي والحصار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، ومؤخراً قانون قيصر، بدأت الإصابات تتزايد وترتفع بنسب يومية تتراوح بين الخمسين والمئة إصابة يومية، وربّما أكثر. إضافة للحديث عن ضعف الخدمات المقدمة من قبل المشافي الحكومية، والنقص في إجراءات الوقاية حتى ضمن الكوادر الطبية، التي بدأ الفيروس يصيبها. 

وفقاً لوزارة الصحة، بلغ عدد المصابين بفيروس كورونا 2765 إصابة، منها 112 وفيات و629 حالة شفاء، لغاية 1 أيلول/سبتمبر. في حين سجلت 182 إصابة في مناطق خارج سيطرة الحكومة. 

وتشير الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة السورية إلى ارتفاع المنحنى البياني للإصابات بالفيروس في سوريا بشكل متصاعد. فيما يبلغ عدد الأشخاص الذين خضعوا للحجر الصحي، بحسب وزارة الصحة 22,567 شخص، ما يزال منهم 369 شخصاً تحت المتابعة حتى الآن. 

وبلغت خسائر القطاع الصحي في سوريا، بحسب وزارة الصحة السورية حوالي 12 مليارات ليرة سورية (قرابة 5.5 مليون دولار أميركي، بحسب سعر الصرف البالغ 2200 ليرة)، حيث تضررت 43 مستشفى بشكل كلي وجزئي، من منها 21 مستشفى خرجت عن الخدمة، نتيجة العمليات العسكرية، كما تضرر 197 مركز طبي، وتعطل 75% من الصناعات الدوائية. فيما بيانات الصحة العالمية تؤكد أنه “لا يعمل في سوريا سوى 64% من المستشفيات، و52% من مراكز الرعاية الصحية، كما فرّ 70% من العاملين في القطاع الصحي خارج البلاد”.

وتناقلت بعض صفحات التواصل الاجتماعي خبر وفاة 28 طبيباً وصيدلانياً بسبب فيروس كورونا، وبذلك يتم تسجيل أولى حالات وفاة جماعية، وليست فردية، في صفوف الكوادر الطبية في سوريا نتيجة الإصابة بالفيروس. إضافة لإصابة عدد من الكوادر الطبية سابقاً في عدد من المشافي.

وتعليقاً على ذلك، قال عميد كلية الطب البشري بجامعة دمشق د.محمد نبوع العوا، لـ”ماري” أنه “عندما يتعرض الطاقم الطبي للإصابات، فنحن نخسر من قدرة هذا الطاقم، وهذا يعتبر فشلاً، وضعف بالمنظومة الطبية”.

كذلك كشف نقيب المحامين في سوريا، الفراس فارس، أن 26 محامياً توفوا حتى 25 آب/أغسطس الجاري، جراء إصابتهم بفيروس كورونا. إلا أن معاون مدير الأمراض السارية في وزارة الصحة د.عاطف الطويل، أرجع في تصريحات إعلامية له، أنّ زيادة نسبة الوفيات بكورونا في سوريا سببه اعتماد البعض على صفحات التواصل الاجتماعي التي تروج بأن المرض غير خطير، ويمكن شرب بعض الأعشاب للشفاء منه، وعدم التوجه للمراكز الطبية إلا في مراحل متأخرة. 

كما أشار الطويل إلى أن “سوريا لم تصل إلى ذروة الانتشار بعد وما نزال في حالة انتشار بؤري محصور في العاصمة دمشق وريفها، وهناك محافظات لم تسجل أي إصابات بعد، ولكن هذا لا يعني أننا لسنا في طريقنا إلى الوصول إلى الذروة خلال شهر أو شهرين”، مؤكداً أن “وزارة الصحة لديها بعض الخطط التي قد تلجأ إليها، منها: وضع منافس ضمن مشافي القطاع الخاص تحت تصرفها وقد توفر مسحات للعموم لاحقاً”. 

من جهته، رجح أخصائي الأمراض الصدرية، د.سلام رجوب، المقيم في الولايات المتحدة، استمرار تسجيل مزيد من الإصابات بالفيروس كما باقي الدول، مؤكداً في حديثه لـ”ماري”: أن “سوريا لم تصل بعد لمرحلة الذروة”. 

أطباء يحذرون

في منتصف تموز/يوليو الماضي، حذر د.حسان زيود، أخصائي أمراض داخلية، من أنّ عدد الإصابات المعلنة في سوريا، قد يكون ربع أو ثلث عدد الإصابات الحقيقية، مضيفاً عبر صفحته على “فيسبوك” أن “هناك ضحايا تموت من نقص المنافس، وأن هناك عائلات بالكامل مصابة في دمشق”.

وقال د. محمد الحسين، أحد الأطباء الذين يعملون في مستشفى الأسد الجامعي في العاصمة دمشق، أن “المستشفى [الأسد الجامعي] يواجه نقص هائل في المواد الطبية والأدوية المصنفة على أنها أساسية وفقاً لمنظمة الصحة العالمية”. مضيفاً في حديثه لـ”ماري” “مع ازدياد عدد الإصابات، دُفع الأطباء والممرضين/ـات للعمل دون أدنى إجراءات الوقاية”.  

وهو ما أكدته الممرضة هديل، (35 عاماً)، والتي تعمل في مستشفى الأسد الجامعي بدمشق، واصفة الوضع داخل المستشفى بـ”الزفت”. وأكدت هديل أن “وفيات المصابين بكورونا بالهبل [أعداد كبيرة]، فيما إحصائيات وزارة الصحة كلها كاذبة”. وكشفت هديل لـ”ماري” أنه “في تاريخ 8 آب/أغسطس الجاري فقط، توفّي 27 مصاباً في مستشفى الأسد الجامعي”، وأن “البرادات يومها لم تعد تتسع، فوضعوا الموتى في ممرات المستشفى”. 

وعلى الصعيد الشخصي، تصف هديل معاناتها اليومية بالقول “عم موت أنا بالدوام. بلبس بيجاما استخدام مرة واحدة، وبعدين أفرول، وبعدين روب ونظارات و3 كمامات”. 

مصابون يرون قصصهم

رغم اتباعه الاحتياطات اللازمة للوقاية، أصيب أحمد سامي، 35 عاماً، ووالدته بفيروس كورونا. وقال سامي لـ”ماري” “بدأت تظهر على أمي أعراض خفيفة، تعب ووهن، ومرارة فم، وهذه كلها أعراض كورونا”، بعد ذلك بدأ سامي يشعر بـ”حرارة مرتفعة”. 

وهنا بدأ سامي يراقب حالته، وابتعد عن الناس وعزل نفسه ووالدته في المنزل، بعد أن أرسل إخوته إلى بيت أحد أقاربه، تالياً لذلك تدهورت حالة والدته الصحية كثيراً، لكنها “تحسنت وشفيت في نهاية المطاف”. أما سامي فقد احتاج إلى جلسات رذاذ لتوسيع القصبات نتيجة ضيق التنفس الذي أصابه. كما تسبب الفيروس بإصابته بـ”التهاب ملتحمة حاد نتيجة الحرارة المرتفعة”، قبل أن يشفى ووالدته من الفيروس بعد شهر من الحجر المنزلي والمتابعة الطبيبة، كما قال لـ”ماري”.

فيما لم يكن حال أحد أقارب ليلى، 50 عاماً، تعمل في القطاع البنكي، أفضل من حال سامي ووالدته. إذ بعدما ساءت حالته الصحية “أصيبت العائلة بالتوتر والخوف، ونحن نرى مستشفيات دمشق الحكومية ترفض استقبالنا لعدم توفر منفسه”. وبعد أيام توفي قريب ليلى لسوء وضعه الصحي “نتيجة عدم تلقيه للعلاج، والصعوبة في توفير الدواء، والصعوبة في الحصول على اسطوانة الأوكسجين”، التي وصل سعرها لأكثر من 400 ألف ليرة (200 دولار أميركي، بحسب سعر الصرف البالغ 2180 ليرة).   

المصير ذاته، واجه اثنان من أقارب محمد مصطفى، في العقد الرابع من العمر، الذي قال لـ”ماري” أنّ اثنين من أقاربه ماتوا بفيروس كورونا، لعدم قدرتهم على توفير الدواء المنصوص عليه في البروتوكول العلاجي لوزارة الصحة السورية، إضافة لكونهم يعانون من أمراض مزمنة. 

المشافي تعاني النقص وانعدام الشفافية

لا كمامات، ولا وسائل وقاية، ونقص في اسطوانات الأوكسجين، هكذا هو حال القطاع الصحي السوري، إضافة إلى عجز مراكز الحجر الصحي والمشافي الحكومية عن استقبال المزيد من المصابين بالفيروس في ظل الارتفاع المتزايد لأعداد المصابين المُعلن عنها رسمياً.

وقالت هديل التي تعمل ممرضة في مستشفى الأسد الجامعي، أن المستشفى تعاني من نقص شديد بالمواد، فـ”اسطوانات الأوكسجين لا تكفي، والمنافس قليلة”، مضيفة “بتحس حالك ما طلع بإيديك شيء لما المريض يختنق أمامك، ولا تستطيع فعل شيء له”. وتختم حديثها لـ”ماري” بأن “الوضع الصحي خارج سيطرة النظام الطبي، لكن نحن نتوكل على الله”.

وهو ما يؤكده د.سلام رجوب، إذ أن “وسائل الوقاية غير متوفرة بشكل كافي وخصوصاً لدى الكادر الطبي”، مؤكداً لـ”ماري” أنه “يجب على الحكومة أن تعطي توجيهاً بتصنيع وسائل الوقاية، وهذا أبسط شيء، حيث أن أي قناع يخفض نسبة الإصابة من 4% إلى 17%”. 

وأضاف رجوب أنه “من الأشياء السلبية عندما يصاب أحد الكوادر الطبية بالفيروس، يؤخذ إلى مركز عزل، وهذا شيء خاطئ، والصحيح أن يعزل في منزله”. مشيراً إلى أن “مراكز العزل مكلفة للدولة، والفيروس ينتشر، ولا معنى لهذه المراكز”.

واستغرب رجوب أنه “في دولة مثل سوريا صناعية، لا يأخذ وزير الصناعة قرار بتصنيع الأقنعة، خصوصاً أن الإمكانيات البشرية والأولية متوفرة”. مطالباً بـ”الشفافية في هذه المرحلة”. 

وفي الوقت الذي تزداد فيه الإصابات والتحذيرات من خروج الفيروس عن السيطرة، تُصر وزارة الصحة على قولها بإن “الجائحة ماتزال تحت السيطرة”. وأن “سوريا ما تزال في حالة انتشار بؤري محصور في العاصمة دمشق وريفها”، بحسب ما قال معاون مدير الأمراض السارية عاطف الطويل.

إلا أنّ عميد كلية الطب البشري بجامعة دمشق محمد نبوغ العوا، يرى، أن أعداد المصابين بفيروس كورونا في سوريا تفوق الأرقام المعلنة من قبل وزارة الصحة السورية، مشيراً إلى أنه “هناك هناك حالات لم تشخص ويتم عزلها في البيت”. 

وأضاف العوا في حديثه لـ”ماري” أنّ “عدد الإصابات كبير جداً، قد يصل إلى حدود 150 ألف إصابة أو أكثر، وأنا لا أبالغ”، مؤكداً “المشافي امتلأت، وأقول ذلك كي تلتزم الناس وتبتعد عن الاستهتار”.

وكشف العوا “هناك أعداد كبيرة تراجع المشافي الحكومية، لكن للأسف كل الغرف ممتلئة والمريض ذو الحالة السيئة لا يستطيع الدخول للعناية إلا في حالة وفاة مريض آخر”. واعتبر العوا أن “هذه المرحلة والتي تمتد لنهاية شهر آب/أغسطس الجاري، هي الأخطر في تفشي الوباء”. مؤكداً أن “سوريا الآن في آخر خطوط السيطرة، وإذا استمر الوضع كما هو عليه من عدم الوعي سوف نخرج عن السيطرة، ولن يبقى هناك مشافي لعلاج المصابين”.

المأساة مضاعفة في الأرياف

ليس حال مشافي دمشق بأحسن من نظيراتها في الريف الدمشقي. حيثُ المنشآت الصحية في مدن وبلدات ريف دمشق تعاني فقدان الخدمات الصحية، نتيجة تعرضها للتدمير وخروج قسم كبير منها من الخدمة خلال السنوات الماضية.

ووسط كل تلك المعاناة اليومية لمصابي كورونا، ونقص الخدمات الطبية، واكتظاظ المشافي الحكومية، وعدم قدرتها على استقبال المزيد من المصابين، ترفض المستشفيات الخاصة استقبال مصابي كورونا، خوفاً على سمعتها، والتي يبلغ عددها 394 مستشفى، تحوي 12,612 سريراً. 

وبين تحذير الأطباء وتزايد الإصابات يوماً بعد آخر، يبقى السوري معلقاً بين خيارين لا ثالث لهما، جلوسه في منزله دون دخل ليحمي ذاته، وبين ذهابه لعمله، وجني دخل يعينه مشقة الحياة وتداعيات فيروس كورونا المتزايدة.

حبيب شّحادة

صحفي سوري، حاصل على إجازة في العلوم السياسية من جامعة دمشق، كما يحمل أيضاً دبلوم في الإعلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق