تقارير

حرستا.. لعنة الحرب والحياة تسجن السكان ضمن بيئة مهدمة

ريف دمشق – ما أن تتجاوز حاجز “حرستا” الواقع على المدخل الغربي لمدينة حرستا في الغوطة الشرقية، قادماً من دمشق، حتى تشعر بالقطِيعة مع العاصمة، التي لا تبعد سوى مسافة ربع ساعة سيراً بالسيارة، إذ لم تعد المدينة كما كانت، فقد طال الدمار نحو 80% منها حتى تغيرت معالمها وأفقدها هويتها.

في بلدته ومسقط رأسه فَشِلَ أبو عبدو الحرستاني (اسم مستعار)، مراراً وتكراراً في ترميم منزله الآيل للسقوط في مدينة حرستا بالغوطة الشرقية شرق دمشق، عقب عودته للمدينة بعد اتفاق “التسوية” الموقع بين فصائل المعارضة والحكومة السورية في العام 2018. ومرد ذلك وقوع منزله خارج المخطط التنظيمي للمدينة.

وبعد عودته إلى المدينة حاول الرجل الأربعيني، ترميم منزله بشكل قانوني عدة مرات، إلا أن قراراً من بلدية مدينة حرستا، بـ”تجميد عمليات الترميم والبناء في المناطق العشوائية غير المُنظمة، يحول دون ذلك. لذا فإن الحرستاني وعائلته يعيشون اليوم في “منزل مُدمّر، لا نوافذ ولا أبواب؛ فالجدران تشققت والبناء كله مُعرض للانهيار”.

ويواجه المئات من أبناء حرستا مصيراً مشابهاَ لعائلة أبو عبدو، في مشهد يشي بتحول الصراع من قتال عسكري إلى صراع البقاء وديمومة الحياة، لمن تبقى من أهل المدينة، والبالغ عددهم اليوم حوالي 20 ألف نسمة، يُعانون نقص في العديد من الخدمات المُقدمة لهم، مقابل 250 ألف نسمة قبل الحرب.

إذ لا تنتهي معاناة البسطاء بانتهاء الحرب. إنّما تبدأ رحلة جديدة من المعاناة عنوانها البحث عن لقمة العيش وسط جبال من الركام ومخلفات الصراع.

مناطق المخالفات مستثناة من الترميم

اشترطت بلدية مدينة حرستا لترميم أي منزل أو محل قيام المتضرر (صاحب العقار) بتقديم طلب ترميم إلى ديوان البلدية، وهذا ما فعله أبو عبدو حين عودته لمنزله. لكن طلبه قُوبل بالرفض لوقوع منزله خارج المخطط التنظيمي لمدينة حرستا. في حين “تم قبول مئات طلبات الترميم لناس منازلها تقع داخل التنظيم [المخطط التنظيمي لمدينة حرستا]”، بحسب ما قال عدنان الوزة، رئيس مجلس مدينة حرستا (بلدية)، لـ”ماري”.

وأشار الوزة إلى أن “إجراءات الترميم تُحوّل إلى المكتب الفني للكشف، وفي حال كان الترميم بسيطاً والضرر كذلك، يعطى موافقة من المكتب التنفيذي على الترميم بناءً على تقرير المكتب الفني”. وحيال رفض الترميم في منطقة المخالفات قال الوزة “بالنسبة للساكنين في منطقة المخالفات، تم رفع كتاب للمحافظة، وأتى الرد بمنع الترميم في العشوائيات كي لا تتحول الأراضي الزراعية إلى كتلة اسمنتية”. مضيفاً “تم السماح بترحيل الأنقاض، وتسكير بعض الفتحات الكبيرة في عدد من الأبنية”.

وكشف الوزة في حديثه لـ”ماري” أن “محافظة ريف دمشق أوقفت كل التراخيص اليوم بشكل مؤقت بانتظار صدور قرارات جديدة من اللجنة الإقليمية”، التي شكلت لـ”دراسة واقع المخططات التنظيمية على مستوى ريف دمشق” برئاسة المحافظ، وعضوية كل من مديري الخدمات الفنية والقانونية، ورئيس مجلس المحافظة ونائب رئيس المكتب التنفيذي ورئيس الوحدة الإدارية والمكتب الفني بالبلدية، بالإضافة إلى مندوب من وزارة الأشغال العامة والإسكان، المسؤولة عن متابعة إصدار المخططات التنظيمية.
لكن كل هذه الإجراءات لا تعني شيئاً لأبو عبدو، وغيره الكثيرين ممن تقع منازلهم خارج المخطط التنظيمي للبلدية، حيث اضطر أبو عبدو لترميم منزله بشكل بدائي اعتماداً على بعض قطع الأخشاب والنايلون لإغلاق نوافذ منزله بما لا يقيه حر الصيف ولا برودة الشتاء.

كما لم يحصل أحد من سكان حرستا العائدين على تعويض أضرار، وفقاً للوزة، الذي أكد بأنّ “محافظة ريف دمشق قامت بعمليات مسح ميداني عبر لجنة الأضرار للكشف عن حجم الدمار، والخراب الذي لحق بالممتلكات كي تعوض المتضررين”، مستدركاً “لكن حتى اليوم لم يحصلوا على شيء”.

ووفقاً لأرقام كشف عنها رئيس بلدية حرستا لـ”ماري” فإن أبو عبدو ليس وحده من حرم من ترميم منزله، إذ يوجد نحو 1000 عائلة تشترك بالمصير ذاته، لا قدرة لهم على تغيير واقعهم في ظل اهمال وتقصير حكومي، وعدم قدرتهم على الرحيل لمكان آخر. وهو ما دفعهم للعيش وسط أحياء مُهدمة.

80% من الأبنية متصدعة

قال المهندس همام حسن إنّ “واقع الأبنية في مناطق النزاع، ومنها حرستا متضعضع ولا ينفع معه الترميم والإصلاح”، بسبب “شدة القصف والمعارك التي أحدثت ضرراً بالغاً في البنية التحتية لأغلب تلك المناطق [مناطق النزاع والقتال] بنسبة تقدر بأكثر من 60 إلى 70%”. مستدركاً أن النسبة في حرستا وصلت إلى أكثر من 80%. إلا أن رئيس بلدية حرستا، عدنان الوزة، قال أن “نسبة الدمار الوسطية التي لحقت بالمدينة تقدر بنحو 40%”.

وأضاف حسن، الذي يعمل مهندساً في مديرية التنظيم العمراني في محافظة ريف دمشق، في حديثه لـ”ماري” أنّه “في حال الرغبة بقيام ترميم على المستوى المناطقي، فإن ذلك يحتاج جهد حكومي وليس فردي من قبل المتضررين الذين فقدوا كل شيء”. مضيفاً “كما يحتاج إلى دراسات واستشارات فنية متخصصة تقوم بدراسة واقع ما تحت الأرض [الأبنية] من تصدعات وشقوق قد تؤثر على سلامة المنازل المُرمّمة في المستقبل”.

ترحيل الأنقاض

رغم ترحيل جزء يسير من أنقاض البلدة وفتح شوارعها الرئيسة، وكذلك إزالة عدد من الأبنية الآيلة للسقوط، إلا أنّه “ما يزال هناك أبنية متداعية [مهددة بالانهيار] تشكل خطراً على السلامة العامة” بحسب الوزة، الذي أكد أنه طالب عدة مرات بإزالة تلك الأبنية وكذلك الأبنية المهدمة، لكن “دون نتيجة”.

وكشف الوزة أنه تم ترحيل 160 ألف متر مكعب من الأنقاض الموجودة في شوارع المدينة منها 90 ألف متر مكعب بالتعاون مع UNDP (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في الدول العربية)، و70 ألف متر مكعب عن طريق الشركة العامة للطرق والجسور، التابعة للحكومة السورية. مؤكداً أن بلدية حرستا بحاجة إلى عقود لترحيل أنقاض بما لا يقل عن 280 ألف متر مكعب إلى خارج المدينة.

واقع خدمي “مخجل”

يعترف الوزة بأنّ الواقع الخدمي سيء وخجول لحوالي 20 ألف نسمة يقطنون المدينة اليوم. وبأن “الحاجة ملحّة لإزالة الأنقاض ولتنفيذ مشاريع الصرف الصحي – الذي تضرر كثيراً نتيجة الانفاق التي حفرت خلال تواجد فصائل المعارضة المسلحة في المدينة- خصوصاً في ظل وجود عدد من المنازل مهددة بالسقوط وبحاجة للإزالة بالسرعة الكلية”.

وفي أواخر كانون الأول/ديسمبر 2019، قالت وسائل إعلام محلية، أن عدة أبنية آيلة للسقوط في مدينة حرستا، انهارت نتيجة الهطولات المطرية الغزيرة، “وعدم قدرة القاطنين على ترميم منازلهم بشكل جيد”.

إضافة إلى ذلك، فإن صعوبة ترحيل الأنقاض من المدينة تسببت في هجر عدد من الأهالي بيوتهم، بحسب ما قال الوزة. وتحتاج المدينة وفقاً لرئيس مجلسها، لـ”إعادة تشغيل الفرن الآلي” الذي ينقصه المازوت والطحين فقط، “كون الفرن جاهز للإنتاج، لكنه لا يعمل”. بينما يعتمد الأهالي على فرن خاص في المدينة.

كما يحتاج القطاع الكهربائي في المدينة إلى “محولات كهرباء” لأجل عودة الكهرباء إلى أحياء المدينة. أما بالنسبة للواقع الصحي، فإن المدينة تخلو من أيّة طبابة بعد الساعة الـ3 ظهراً، لكون المركزين المتنقلين المتواجدين حالياً فيها ملتزمان بدوام محدد، ولا يوجد غيرهما.

 مشاهدات مأساوية

زيارة حرستا ليست يالأمر السهل، كما الكثير من المناطق السورية، تحتاج إلى الوقوف والانتظار قرابة الساعة على الحاجز لاستكمال إجراءات الدخول، التي تتعلق بآلية التدقيق من قبل حاجز للقوات الحكومية السورية على مدخلها الرئيسي، حيث يتم تدقيق البطاقات الشخصية وتفتيش السيارات والأمتعة.

مع دخولك المدينة فإن شارع المحكمة هو الشارع الأول، الذي يطل عليك بأبنيته المرممة أو غير المدمرة أصلاً، فيصور لك على الفور أنه لم يشهد ما عاشته باقي الأحياء من معارك حامية الوطيس، وما إن تلتفت يمنة أو يسرة حتى تشعر كأن آلة الزمن عادت بك إلى سنوات الحصار، حيث تكاد تخلو الأحياء من السكان والحركة.

يزكم أنف المتجول هناك بالغبار الذي يعج بالمكان، نتيجة الدمار الهائل، والسير على الأقدام في الحارات الفرعية، التي  لا تستطيع  السيارات عبورها. أشباه بيوت ومنازل مدمرة، حتى مقبرة حرستا طالها الدمار، وكأنها الشاهد الأخير على ما جرى. 

إضافة إلى حفر الصرف الصحي كبيرة الحجم، والتي يصل حجم بعضها إلى خمسة أمتار، أكبال الكهرباء مقطوعة ومسروقة، والاعتماد على الذات في وصل الكهرباء هو الحل، إذ  تقوم كل عائلة بمفردها بمد أسلاك الكهرباء من المحمولات التي وضعت بداية المدينة إلى منزلها، ما يعني أن الكهرباء لن تغطي كثيراً من أحياء المدينة المنكوبة. بينما تقنين الكهرباء طويل جداً إلى حد أنه قد تصل فترة الانقطاع إلى 15 يوماً، كما أفاد عدد من سكان حرستا، لـ”ماري”. لتصبح حرستا مدينة أشباح تخيف الزائر في النهار، فكيف هو حال ساكنيها ليلا؟!

لا موعداً مع الترميم

في 30 أيار/مايو 2019 قال مدير دائرة الإغاثة والمنظمات الدولية في محافظة ريف دمشق، تيسير القادري، إن “خطة المنظمات [الإنسانية] تتضمن في المرحلة الأولى ترميم 3 آلاف منزل في 2019، ومن الممكن أن يصبح الرقم 5 آلاف منزل حتى نهاية العام [2019]”.

ولفت القادري إلى أن “البدء بالتنفيذ سيكون في منطقة مغر المير في جبل الشيخ بريف دمشق الغربي، وعدة مناطق بالغوطة [الشرقية] من قبيل: عين ترما وعربين وحرستا. والدرخبية، ويكون انتقاء المواقع بحسب الاحتياج والإسراع بخطة عودة الأهالي، لكن لا يوجد استثناء لأي منطقة”، على حد قوله.

وحيال هذا الكلام، قال مصدر خاص في مديرية المجالس المحلية بمحافظة ريف دمشق، لـ”ماري” شريطة عدم الكشف عن اسمه، بأن “خطة المنظمات الدولية في الترميم وإعادة الإعمار خجولة وتقتصر على بعض المناطق والمواقع التاريخية مرجعاً ذلك لأسباب سياسية”.  

وأضاف المصدر، بأنّ “بلدية حرستا ومحافظة ريف دمشق غير قادرة على تأمين البنية التحتية الأساسية من الخدمات والمرافق العامة في ظل فقدان الحكومة لقدرتها على إعادة الإعمار، فكيف بحال الناس التي أصبح وضعها مأساوي اليوم لدرجة أنها اضطرت للسكن في منازل شبه مدمرة”.

الوسوم

حبيب شّحادة

صحفي سوري، حاصل على إجازة في العلوم السياسية من جامعة دمشق، كما يحمل أيضاً دبلوم في الإعلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق