عمّان – لعل أبرز ما يلخص عقلية الحكومة السورية في إدارة البلاد جاء بعنوان تحقيق استقصائي أعدته مجلة “دير شبيغل” الألمانية “أهلا وسهلا بالموت” والذي نشر مطلع نيسان الجاري.
التحقيق الذي يصّور مدى استهتار الحكومة بحياة مواطنيها، حيث توجهت صحفيّة ساهمت في إنجاز التحقيق بسؤال لأحد ضباط القوات الحكومية على حاجز داخل دمشق، لماذا لا يزودون العناصر على تلك الحواجز بالمعدات اللازمة للوقاية من عدوى كورونا، فكان جوابه: “نحن لا نأبه بالموت، أهلا وسهلا بالموت!”.
جائحة كورونا هزت أركان العالم، لكنها شيء غير موجود بالنسبة للحكومة السورية، أو على الأقل سيتم الانتصار على هذا الفايروس كما تم “سحق الإرهاب” بحسب وصف وزير الصحة نزار يازجي.
التصريح الذي استقبله السوريون -المؤيدون منهم قبل المعارضين- بالكثير من الانتقاد والسخرية ليظهر بعدها في 22 آذار/مارس 2020، ويصرح للتلفزيون السوري عن تسجيل أول إصابة بفيروس كورونا في سوريا لشخص قادم من خارج البلاد.
وأوضح الوزير أنّ حكومته اتخذت الإجراءات اللازمة للتعامل مع الحالة، ومن خلال مكالمة هاتفية أجرتها الناشطة ميسون بيرقدار مع إعلامي من قناة الآن الرسمية التي صرح وزير الصحة من خلالها، أوضح الإعلامي أن الحالة المصابة تعود لطالبة قادمة من إيران أو لبنان.
تزامن ذلك مع اتخاذ الحكومة إجراءات للحد من انتشار الوباء، تشمل إغلاق المدارس والجامعات ودور العبادة والحدائق العامة والمقاهي والمطاعم والمسارح ودور السينما وصالات الأفراح والصالات الرياضية والأسواق، بالإضافة إلى المؤسسات الرسمية وتقليل عدد الموظفين.
وأوقفت الحكومة كل وسائل النقل الجماعي العام والخاص داخل المدن والنقل الجماعي بين المحافظات السورية، ومؤخراً أعلنت الحكومة عن حظر تجول المواطنين في جميع أنحاء سوريا أيام الجمعة والسبت من كل أسبوع، اعتباراً من الساعة ١٢ ظهراً وحتى الساعة السادسة من صباح اليوم التالي.
قبل عدة أيام عبّر رئيس فريق منظمة الصحة العالمية للوقاية من الأخطار المعدية عبد النصير أبوبكر، عن قلقه، وذلك في حديثة لشبكة “سي إن إن” الأمريكية، وقال: “المنظمة قلقة من احتمال تفجر حالات الإصابة بكورونا في سوريا واليمن، وليبيا”. وأضاف: “عاجلاً أم آجلاً قد نتوقع انفجار حالات هناك”.
تحدثنا إلى أبو حسن (36) عام، وهو أب لطفلتين، يعمل في معرض لبيع الأدوات الكهربائية في حي الزاهرة، ووصف لنا معاناته في تأمين مصروف عائلته بعد قرار إغلاق المحال التجارية كعمل احترازي بعد تفشي فايروس كورونا.
يقول أبو حسن: “قالها قبلي كثيرون، نحن في سوريا لا يمكن أن نفعل ماتفعله باقي شعوب الأرض، في ظل هذا الغلاء وتدني الرواتب، لا يمكن لنا أن نخسر راتب يوم واحد من معاشنا، أنا راتبي الشهري 60 ألف ليرة سورية، وأجار منزلي الصغير يعادل نفس القيمة تماما”.
ويتابع أبو حسن وصف مأساته “لا أدري إن كان صاحب العمل سيقتطع من راتبي أجرة أسبوع بسبب توقفنا عن العمل، أريد أن يدرك أصحاب القرار أننا لسنا جميعا موظفين، صاحب المنزل وافق على تأجيل نصف المبلغ الذي يتوجب عليّ دفعه لنهاية نيسان/ أبريل، وبهذه الحالة مطلوب مني تأمين 30 ألف [ليرة سورية] بعد يومين، لا املك منهم مايكفي بعد أن أحضرت بعض احتياجات العائلة البسيطة من طعام يسد حاجتنا لبضع من الأيام القادمة”.
وخسر أبو حسن فرصتي عمل بسبب قرارات الإغلاق الأخيرة “أحد أقاربي يستثمر سيارة أجرة وكنت أساعده في العمل عليها عندما يحتاج الأمر، وذلك بعد الساعة 7 عندما أكون أنهيت دوامي في معرض الكهربائيات، لكن توقف عملي الآخر هو القشة التي قصمت ظهر البعير وكسرت ظهري أيضاً، وأريد أن أوضح نقطة صاحب المنزل غير مجبر على مسامحتي كما يروج البعض، فهو رجل مسن، والمبلغ الذي أدفعه له كأجرة، يؤمن فيه أدويته ومستلزماته الطبية، اليوم في دمشق لا يوجد غني، الكل محتاج والكل متضرر”.
ويعقّب أبو حسن على موضوع المساعدات وبعض الأعمال الخيرية التي يقوم بها البعض في دمشق مشككا بآلية عملها، ومفسرا ذلك لـ”ماري”: “من وجهة نظري الشخصية لا أثق بأحد، الصور التي تنشر على فيسبوك، لا ينحصر تلفيقها من جانب الحكومة فقط، حتى الجمعيات والمنظمات والشباب المتحمسين في بث صورهم خلال تغطية أعمالهم الخيرية، لم أرى واحدا منهم في حارتي، ولم أسمع أن أحدا من جيراني حصل على مساعدة، رغم وجود أعداد كبيرة تحت خط الفقر، لا أدري ما هي الآلية التي يعملون بها”.
أما سحر، التي تعمل في إحدى المكتبات المتواجدة داخل كلية الآداب في دمشق، أخبرتنا أنها تعيش في شقة صغيرة مع أمها تروي قصتها لـ”ماري”: “أحمد الله أننا نمتلك هذه الشقة ولا يترتب علينا دفع إيجار في نهاية الشهر، وإلا كان الوضع كارثي”.
وتضيف سحر “أنا منقطعة عن العمل منذ حوالي الأسبوعين، ما إن بدأت إجراءات الحكومة الإحترازية، بدأ الكل يفكر بمصيره ومصير عائلته فقط، صاحب العمل لن يقدم لموظفيه أي خدمة أو تعويض، ولم يحاول أن يتصل بنا حتى من يوم إغلاق المكتبة، لذلك الأيام القادمة صعبة على الجميع، الكل يدّخر والتجار يبررون جشعهم بارتفاع سعر الجملة، رقابة التموين لا تظهر إلا أمام كاميرات الصحافة”.
وتسهب سحر في شرح معاناتها “حاليا لا أملك ثمن جرة غاز في حال تم استهلاكها ونفادها، ناهيك عن الوضع النفسي الذي يجعلنا في تخوّف دائم بالإصابة بالفايروس أو غيره، ليس خوفا من الإصابة فقط بل خوفا من مراجعة المراكز التي يعتبرونها مراكز طبية “.
إلا أن المأساة لا تقتصر على من هم داخل سوريا بحسب سحر “القرارات التي فرضت الحجر الصحي المنزلي لم تكن صعبة على السوريين داخل سوريا فقط، حتى أخي الذي يعمل في مصنع أحذية في تركيا توقف عمله بسبب قرارات الإغلاق هناك وهذا الشيء انعكس علينا في دمشق بعد أن كنا نعتمد إلى حد كبير على المساعدات المالية التي كانت تصلنا من أخي المقيم هناك، وما أراه هو أن الحلول انتهت، وستكون ضرب من الخيال لو امتدت أيام انقطاعنا عن العمل أكثر من أسبوعين”.
عامر، طالب دكتوراه في إحدى كليات جامعة دمشق أخبر “ماري” “أن القلق والخوف تغلغل بشكل كبير بين السوريين” معتبرا أن سبب ذلك هو حجب الصورة الحقيقية عن المواطن.
يقول عامر: “لابد أن يكون هناك حالات غير معلن عنها في سوريا، فالسبب الأول يعود لعدم الثقة بكل ما تنقله لنا وسائل الإعلام الرسمية، ناهيك عن عدم توقف ذهاب وقدوم المقاتلين المساندين للنظام إلى دول الجوار التي انتشر فيها الفيروس دون إخضاعهم لفحوصات”.
نشر موقع الشرق الأوسط أن طالبة سورية في المرحلة الإعدادية بمنطقة تنظيم صحنايا في ريف دمشق، قالت إنها تلقت توبيخاً من إحدى المعلمات بذريعة أنها تثير الخوف بين الطلاب حول فيروس كورونا، بسبب استخدامها مادة معقّمة لتنظيف مقعدها في الصف، وذلك في شكوى تقدمت بها الطالبة إلى إذاعة “مدينة إف إم”.
أزمة فايروس أم أزمة تجار؟
منذ أسابيع وقبل اتخاذ الحكومة أي نوع من إجراءات الوقاية، بدأ التجار وأصحاب المحال التجارية برفع الأسعار دون رقيب أو حسيب، هذا ماقالته سيدة من دمشق لـ”ماري” “لم تعد مشكلتنا في تصريحات الحكومة حول وجود حالات مصابة أم لا، مشكلتنا اليوم هي الصراع مع الواقع المعاش ومع التاجر الجشع”.
“أحد أقاربي دفع ضعف ما كان يدفعه في أحد المشافي الخاصة خلال مراجعته الأخيرة لمتابعة حالة ابنته الصحية” وتتابع السيدة “سعر ربطة الخبز 200 ليرة سورية بدل 50، والخبز السياحي وصل سعر الربطة منه إلى 600 ليرة”.
عقّبت سحر على حالة الفوضى الموجودة في شوارع دمشق، واعتبرت أن القرارات جاءت متأخرة وغير مدروسة “شوارع دمشق قبل ساعات حظر التجول تذكرنا بأسواق رمضان، الإزدحام في كل مكان، الشوارع ممتلئة ببسطات الخضار المكشوفة، والالتزام بالضوابط الصحية مثل ترك مسافة بين الأشخاص نادرا ماتراها، ولعل الخطأ الفادح في القرارات المتخذة كسبيل حد انتشار هو قرار حظر التجول الجزئي”.
حجر صحي على هيئة سجن
نشرت العديد من المواقع صورا لمركز حجر صحي في منطقة “الدوير” في ريف دمشق، ترافقت مع هذه الصور الكثير من الشكاوي المقدمة من المحجور عليهم هناك بأنها غير صالحة للإستخدام البشري نهائيا، ونشرت العربية تقريرا عن ذلك مرفقا فالفيديو الذي ظهر فيه أحد المتواجدين في مكان الحجر وهو يطلب إيصال شكواه للجميع.
في المقابل يقول أحد الأطباء تخرّج حديثا، فضّل عدم ذكر اسمه: “لنترك كل ما حدث خلال الأعوام الماضية خلفنا، ولنقوم بفتح صفحة جديدة ربما أجبرتنا عليها الظروف”، حيث أشار لـ”ماري “عن أهمية تكاتف الجهود في هذه الفترة”.
وأشار الطبيب إلى أن ما يحدث ربما يكون مؤشرا لخلاص “الأزمة السورية” في حال تجاوز محنة هذا الفيروس، وقال: “في حال وجود حالات كورونا أم لا، نحن عملنا إنساني لايجب أن يخضع لأي جهة، وكل ما علينا فعله هو الاستعداد، نحن مجموعة أطباء وممرضين قررنا منذ حوالي أسبوع العمل كمتطوعين، نعمل حاليا مع منظمة خيرية بالتعاون مع إحدى المؤسسات الحكومية، وقمنا بتعقيم وتجهيز طابق كامل في إحدى المباني الحكومية داخل ضواحي دمشق”.
إلا أنه ما يزيد الطين بلة هو تعنت وسائل الإعلام الحكومية والداعمة لها بنشر المعلومات المضللة واعتماد سياسات التعتيم الإعلامي، بل تؤلف وتزيف الأخبار، وهذا النهج لا يستثني كورونا بحال من الأحوال، مؤخرا اختلقت قناة “العالم” الإيرانية تصريحات حول التعامل الإيجابي من قبل حكومة النظام مع الأزمة، ونسبتها للجنة تابعة لمنظمة الصحة العالمية.
هذا ما دفع منظمة الصحة العالمية أن توضح في تغريدة عبر حسابها الرسمي في “تويتر” أن اللجنة التي تحمل اسم “لجنة التنسيق التابعة لمنظمة الصحة العالمية”، لا وجود لها على الإطلاق ومختلقة، وأن كافة التصريحات المنسوبة لها عارية عن الصحة.