دمشق – ضاق يحيى العارف (39 عاماً) ذرعا للحصول على دواء لزوجته التي تخضع لعلاج في مشفى المجتهد بدمشق، وبينما تتدهور صحة الزوجة في غرفة العناية الصدرية لعدم توفر الدواء، يجول يحيى صيدليات دمشق بحثاً عن الدواء.
وقال يحيى، الذي يقيم في منطقة حرستا بريف دمشق مع زوجته وأولاده الخمسة: “بحثت بأكثر من 20 صيدلية في دمشق عن الدواء ولم أجده. زوجتي تموت بالعناية الصدرية لعدم توفر الدواء”.
“والله العظيم ما في عنا، ما عم يوزعولنا” تتردد هذه العبارة على مسامع طوابير طويلة ترتصف أمام صيدليات دمشق لصرف الوصفات الطبية. تزامن ذلك مع تحذيرات أطلقها، عضو مجلس الشعب السوري وضاح مراد، في 2 حزيران/يونيو الجاري، والمتضمنة أنّ “معامل الأدوية مُهددة بالإغلاق بعد أن تنتهي المواد الأولية المتبقية بحوزتها”.
مراد الذي لم يتردد في تحميل الحكومة السورية كامل مسؤولية التلاعب في النظام الصحي للبلاد، في لعبة شد وجذب مع أصحاب مصانع الأدوية، قال لـ”ماري”: “الدواء غير متوفر في الصيدليات، والمعامل غير قادرة على الإنتاج كما كانت تنتج سابقاً فهذا يعني أن الحكومة مُقصرة، وفي حال كان الدواء محتكر فالدولة تتحمل المسؤولية أيضاً”. واتهم مراد وزارة الصحة بـ”الكذب” حيال تصريح الوزير بأن الدواء موجود. مطلقاً عليها مسمى “وزارة اللاصحة للمواطنين”.
يأتي ذلك، بالتزامن مع دخول قانون “قيصر” الأميركي، اليوم، حيز التنفيذ، والذي يشمل مجموعة من العقوبات الاقتصادية على الحكومة وشخصيات محددة من الدولة السورية والمتعاملين معها.
إذ اعتبر وزير الصحة السوري، قبل أيام أن العقوبات الأميركية تطال “المواطن السوري حتى بالدواء”، على الرغم أن القانون بحسب المدافعين عنه، استثنى المواد الغذائية والأدوية من جملة العقوبات.
أزمة دوائية “مفتعلة”
يشهد الواقع الدوائي والصيدلي منذ حوالي بداية الشهر الجاري احتكاراً للأدوية من قِبل معامل الأدوية وأصحاب المستودعات، من أجل خلق أزمة دوائية وصحية للضغط على وزارة الصحة لرفع أسعار الأدوية، والضحية الوحيدة السوريين. وفقاً لما أكده عدد من الصيادلة بدمشق، لـمراسل “ماري”.
ورغم سنوات الحرب التسع، وما نتج عنها من تفاقم للمعاناة الاقتصادية والمعيشية للناس في معظم المناطق السورية، إلا أنّ تلك المعاناة لم تصل لدرجة عجز الناس عن تأمين الدواء. بينما اليوم أصبح الحصول على بعض الأدوية في سوريا، أمراً صعباً، فهي إمّا غير متوفرة في غالبية الصيدليات، أو أنّ سعرها سجّل ارتفاعاً جديداً.
مع ذلك، فإن النقص في الأدوية وما نتج عنه من معاناة للناس، ليس وليد اليوم، بل بدأ مع تطبيق الحكومة لإجراءاتها الاحترازية لمواجهة فيروس كورونا، في أواخر آذار/مارس الماضي، ويبدو أنّ هذا النقص تحول لأزمة بفقدان العديد من الأصناف الدوائية من الصيدليات لامتناع المعامل عن الإنتاج ما أثّر بشكل مباشر على حياة الناس.
وكانت الحكومة عبر وزارة الصحة قد رفعت أسعار 1400 صنف دوائي من أصل 11800 زمرة دوائية، بين 60% و600%، في 20 أيار/مايو الماضي، واعتمدت في التسعير الجديد على سعر صرف الدولار التفضيلي، البالغ 704 ليرة بدلاً من السعر الرسمي الذي حدده مصرف سورية المركزي، والمقدر بـ 435 ليرة، وذلك للأدوية التي تُستورد موادها الأولية بعد آذار/مارس 2020.
وجال معد التقرير على أكثر من عشر صيدليات بمناطق مختلفة داخل العاصمة، وتقاطعت آراء الصيادلة على أنّ مشكلة نقص الدواء تكمن في الخلاف بين “وزارة الصحة” ومعامل الأدوية (المتوقفة عن الإنتاج) بسبب رفض الوزارة تعديل الأسعار بما يتناسب مع الارتفاعات الحاصلة بسعر صرف الدولار الأميركي -العملة المعتمدة لاستيراد الأمصال ومدخلات إنتاج الأدوية- في السوق السوداء.
وقال صيدلاني مقيم في دمشق، لـ”ماري”: “الموزعون والوكلاء [وكلاء مبيعات شركات الأدوية] يقومون بتوزيع علبتين أو ثلاث من كل صنف دوائي”.
ونتيجة لذلك، دخلت زوجة يحيى العارف المشفى بحالة صحية حرجة الأسبوع الماضي، وقال يحيى لـ”ماري”: “كنا نتابع علاجها المعتاد، لكن فجأة انقطع الدواء الذي تأخذه، والذي كنت أشتريه بسعرٍ مرتفع”.
وتساءل يحيى بسخرية سوداء “منزلي أشبه بمنزل على الهيكل، ولم يكن ينقصنا إلا أزمة الدواء وارتفاع سعره في بحر الأزمات المعيشية التي تحيط بنا”.
تقاذف المسؤولية، وتناقض في التصريحات
لم يعترف أياً من مسؤولي إنتاج الأدوية وتوزيعها وبيعها بجذر المشكلة، حيث تلقي الحكومة السورية اللوم على أصحاب الشركات ومعامل الأدوية، الذين بدورهم يقولون بأنّ الحكومة تطلب إنتاج الدواء وبيعه بخسارة.
وفي 4 حزيران/يونيو الجاري، قالت الحكومة السورية أنّها رفعت تسعيرة الأدوية على أساس تكاليف المستلزمات المسعّرة بسعر صرف الدولار التفضيلي 704 ليرة، بعد أن كانت التسعيرة السابقة بحسب سعر الصرف 435 ليرة، بينما الصناعيون يقولون: “إنّ الوزارة تضع التسعيرة على أساس الدولار الرسمي 435 ليرة”.
وتبع ذلك في اليوم ذاته، مؤتمر صحفي لوزير الصحة السوري، نزار يازجي، قال فيه إنّه “ليس هناك انقطاع لمادة دوائية، قد يكون هناك انقطاع لأسماء تجارية، لكن يوجد بدائل، فالوزارة تُرخّص الصنف الدوائي الواحد لعدة معامل”. وأضاف يازجي بأنّه “لا يوجد أي حجة لمعامل الدواء لتوقف إنتاج الدواء والحكومة تتحمل أعباء دعم تمويل مستوردات المواد الأولية وباقي المستلزمات”.
وتناقض كلام الوزير مع كلام مدير الشؤون الدوائية في وزارة الصحة، د. رزان سلوطة، التي أكدت بأنّه “هناك شُح في بعض المواد الأولية التي نستوردها نتيجة أزمة كورونا، وكثير من الدول أحجمت عن تصدير المواد الأولية لديها”، مشيرة إلى أنّ “المعامل الدوائية كانت متخوفة ولكنها لم تغلق، بل قننت البيع ورشدت في الصرف”، مؤكدة أن “عملية تعديل الأسعار تؤدي إلى تلكؤ”.
إلا أن نقيب صيادلة سوريا، وفاء كيشي، أرجعت الأزمة الدوائية، إلى “قيام بعض المواطنين بشراء الأدوية بأكثر من حاجتهم وتخزينها”، مؤكدة “هناك أدوية تكفي المواطنين في سورية لمدة سنة”، فيما أقرّت نقيب صيادلة دمشق، علياء الأسد، بفقدان العديد من الأصناف الدوائية في السوق.
الحالة إنسانية والمشهد ضبابي
وفقاً لمعاينة مُعد التقرير، شهدت مختلف مناطق العاصمة دمشق حالة من الازدحام على ما تبقى من صيدليات غير مُغلقة، حيثُ قام أغلب الصيادلة بالإغلاق والامتناع عن البيع واحتكار الادوية لحين رفع سعرها، إضافةً لافتقاد الصيدليات العاملة لأغلب صنوف الأدوية من قبيل أدوية الضغط والسكري والقلب وحتى السيتامول.
مشهد الازدحام على الصيدليات لم يكن مألوفاً في سوريا رغم الحرب، نتيجة كثرة الصيدليات ضمن المنطقة الواحدة، وتوفر الدواء، لكنه أصبح اليوم مشهد يومي لأغلب المرضى، في ظل انقطاع الأدوية وشح بعض صنوفها واستحالة الحصول عليها.
ولم يحالف الحظ، عبير، التي تقيم في حي البرامكة وسط دمشق، بالحصول على دواء ضغط لوالدها، ودواء قلب لوالدتها، من نفس العيار الذي يستخدمونه. وقالت عبير لـ”ماري”: “بحثت في كل الصيدليات المحيطة بمنطقتي لم أجد الدواء المناسب”، ونتيجة لذلك نصحها أحد الصيادلة بأخذ نصف حبة من عيار الـ100 لوالدها، الذي كان يستخدم دواء الضغط ذو العيار 50، ولتبقى والدتها دون دواء لعدم توفره.
ورصد مُعد التقرير خلال جولته في عدد من أحياء العاصمة دمشق تجمع عدد من الناس أمام ما تبقى من صيدليات غير مُغلقة، للحصول على أدويتهم الضرورية واليومية. في حين كان مشهد الصيدليات المغلقة اعتيادياً خلال الأسبوع الماضي، إذ طغى مشهد الفراغ على واجهات تلك الصيدليات وعلى رفوفها، مع عبارات من قِبل الصيدلي ” والله ما في”. “ما عاد أجى منو”. “هلق خلص” وغيرها، وسط حالة نفسية سيئة لأغلب من فشل في الحصول على دوائه، مكرراً قوله للصيدلي “ما بيدبر معك هالدوا” ووين بلاقي هالدوا الله يخليك”.
الصيادلة والحجة سعر الصرف
من جانبه، أعاد الصيدلي معين يوسف، المقيم في دمشق، في حديثه لـ”ماري” أسباب نقص بعض أنواع الأدوية، إلى تخفيض غالبية معامل الأدوية المحلية إنتاجها أو إنتاج أصناف محددة، بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي في دمشق إلى 3600 ليرة الأسبوع الماضي، في حين تسعّر وزارة الصحة الأدوية، على أساس سعر صرف الدولار الرسمي، أي 434 ليرة، في وقت طاول ارتفاع الأسعار جميع مناحي الحياة.
في حين رأى الصيدلي أحمد وهبة، المقيم في دمشق، أن المشكلة في وزارة الصحة التي ترفض رفع الأسعار لمعامل الأدوية التي توقفت عن الإنتاج بشكل كامل. مؤكداً لـ”ماري” أنّ “قائمة الأدوية المسعّرة حديثاً والتي تحتوي 1247 صنف دوائي غير موجودة بالسوق نهائياً”.
إلا أن صاحب صيدلية “المنير” بدمشق، قال إن “الدواء متوفر في المعامل وكذلك المواد الأولية، لكنها لا تنتج اعتراضاً على الأسعار”، حيث يبلغ مثلاً سعر علبة انفكون 200 ليرة، والذي “لا يغطي تكاليف الكرتونة والزجاجة”.
وأضاف في حديثه لـ”ماري” بأنّ “المستودعات توقفت عن توزيع الأدوية، وفي حال وزعت يكون ذلك بالقطارة”، مشيراً إلى أنّ “معظم الصيدليات تبيع ما لديها من دواء وبنفس الأسعار”، مؤكداً أنّ “الصيدلي لا يمكنه رفع السعر خارج تسعيرة وزارة الصحة، لأنّه يشعر بالألم والخجل من الناس الذين يطلبون منه دواء غير متوفر”.
الموزعون وأصحاب المعامل
قال موزع مستودع “فارما” في دمشق، أنس الخولي “في فترة الحظر [التي أعلنتها الحكومة السورية ضمن إجراءات مكافحة كورونا] تأثّر عملنا سلباً، حيث لم نعد نستطيع التوزيع لكل الصيدليات، ما سبب نقص بعض الأدوية، وحالياً خلال أزمة الدواء لم نرفع أسعار الأدوية المنتجة محلياً، ونقوم بالتوزيع اليومي للصيدليات”.
وأضاف الخولي لـ”ماري” “سعر الصرف دبحنا”، نتيجة لانعكاسه على توفر الأدوية المستوردة التي ارتفعت أسعارها، مستدركاً “بنفس الوقت أحجمت العديد من المستودعات عن توزيعها الأدوية للصيدليات”.
وقال رشيد الفيصل، مالك معامل “ابن حيان للأدوية”: “الوزارة جمعت أصحاب الشركات والمعامل لتملي عليهم شروطها وليس لحل المشكلة”، مضيفاً لـ”ماري” أنّ 80% من احتياجات معمله تستورد بسعر صرف الدولار في السوق السوداء،
وأكد الفيصل “رفع سعر الاستيراد للأدوية إلى السعر التفضيلي 700 ليرة لا يحل المشكلة نهائياً”، معتبراً أنه “مالم تعدل الأسعار لن تحل المشكلة”.
كما أشار الفيصل إلى أن معمله لم يتوقف عن الإنتاج، وأنه لديه مواد مستوردة بمليون دولار “وهذه المليون لا تأتي من سعر 200 و300 ليرة لعبلة الدواء” بحسب تعبيره.
مخالفات دستورية
تنص المواد رقم: 25، 22، 23 من الدستور السوري على أن الحكومة مسؤولة عن الصحة العامة للناس، وأنّ “التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية أركان أساسية لبناء المجتمع، وأن الدولة تكفل المواطن في حالات الطوارئ والمرض”.
لكن، الواقع مختلف تماماً عن ما نص عليه الدستور، حيث سمحت الحكومة بتصدير الدواء المنتج محلياً بشرط ألا يؤثر ذلك على حاجة السوق المحلية، إلا أن السوق المحلي يُعاني فعلاً من أزمة دوائية منذ حوالي الشهر، ومع ذلك سمحت الحكومة بالتصدير.
وحيال ذلك علق دكتور القانون العام بجامعة دمشق عصام التكروري، “إن السماح بتصدير الأدوية الممولة بالدولار المدعوم يفرض على الحكومة تبني آلية تجعل تلبية حاجة السوق المحلية من الأدوية أولوية مطلقة وتحديداً بالنسبة للأدوية الأكثر إلحاحاً مثل مضادات الاكتئاب”، إضافة إلى “الموازنة بين سعر الدواء ودخل الفرد بعد أن وصلت أسعار بعض الأدوية لأسعار خيالية”.
واقترح التكروري بمنشور على صفحته الشخصية في “فيسبوك” بأنه يجب “إلزام شركات الأدوية برفد السوق المحلية بنسبة معينة من الأصناف الدوائية التي تنتجها بالدولار المدعوم مقابل السماح لها بتصدير نسبة معينة تتراوح ما بين 10 إلى 30% من كمية الدواء التي ضختها في السوق المحلية تحت طائلة المنع من التصدير”.
وبالعودة إلى يحيى، فإنه يدرك كما غيره الكثير من السوريين فداحة الوضع الصحي في سوريا، في ظل نقص الأدوية، وامتناع وزارة الصحة عن حل المشكلة بما يوفر الدواء للناس ويحميهم من الوقوع في العجز حتى عن شراءه، بعد أن أصبح 83% من السوريين تحت خط الفقر.