تحليلات

الكهرباء مقابل الماء.. معادلة تثقل كاهل سكان شمال شرق سوريا

بقلم؛ ماهر & سيف الحمدان & هوشنك حسن.

تجلس أم محمد أمام منزلها منتظرة “بائع الماء”(تسمية تطلق على أصحاب صهاريج يبيعون مياه الشرب) لنجدتها، فـ”صنابير” منزلها هادئة منذ ثلاثة أيام، وما خزنته في الأواني المنزلية يوشك على الانتهاء، ولا تدري كم عليها الانتظار لحين عودة المياه مرة أخرى إلى مواسير حي العزيزية الذي تقطنه في مدينة الحسكة، شمال شرقي سوريا.

تضطر نسبة كبيرة من سكان مدينة الحسكة وتل تمر كما أم محمد، في المناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، إلى شراء خمسة براميل ماء بـ5,000 ليرة سورية (2 دولار أميركي، بحسب سعر الصرف البالغ 2500 ليرة للدولار الواحد)، وذلك نتيجة إيقاف ضخ المياه من محطة علوك شمال غرب الحسكة، من قبل القوات التركية وفصائل “الجيش الوطني” (فصائل المعارضة المسلحة المدعومة من تركيا).

الكهرباء مقابل الماء

تطالب تركيا الإدارة الذاتية بمد مناطق سيطرتها في شمال شرقي سوريا، بالكهرباء مقابل إعادة ضخ المياه من محطة علوك، والتي أوقفتها لأول مرة في 24 شباط/فبراير الماضي، الأمر الذي أضر بنحو نصف مليون شخص بحسب تقرير لليونيسيف، فيما تعتبر الإدارة الذاتية الرقم أكبر من ذلك بضعفين.

وقال القائد العام للقوات الروسية في منطقة شمال سوريا، الجنرال أليكسي أناتولي، في إجتماع مع الصحفيين مطلع آذار/مارس الفائت، أنه التقى قائد مركز التنسيق التركي، الجنرال برهان اكتاش في مدينة نصيبين التركية، بعد أقل من 24 ساعة من إيقاف الضخ لأول مرة من المحطة، والذي وصفه أناتولي بـ “العمل غير الشرعي وغير الأخلاقي”، لكونه “حدث دون سابق إنذار”، حيث قامت القوات التركية بطرد الفنيين، دون توضيح الأسباب للطرف الروسي، بالرغم من توقيع رؤساء البلدين لاتفاقية بخصوص المنطقة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

وأضاف أناتولي أن الجنرال التركي طالبه صراحة بمد منطقتي رأس العين وتل أبيض -تسيطر عليهما تركيا عبر فصائل الجيش الوطني السوري، منذ معركة “نبع السلام” التي أطلقتها للسيطرة على الشريط الحدودي شمال الحسكة في تشرين الأول/أكتوبر 2019- بـ الكهرباء من سد تشرين مقابل إعادة ضخ المياه.

ورغم قيام ورش الصيانة التابعة للإدارة الذاتية بإعادة مد خطوط الكهرباء الواصلة إلى محطة مبروكة التي تمد منطقتي رأس العين وتل أبيض بالكهرباء، والتي تضررت نتيجة الأعمال القتالية خلال العملية العسكرية التركية، إلا أن تركيا لم تفِ بإلتزاماتها، بحسب أناتولي.

ووفق أناتولي، ترفض تركيا عودة الفنيين إلى محطة علوك تحت ذريعة “خطورة المنطقة”، كما أنها رفعت سقف مطالبها من الكهرباء حتى وصلت إلى 30 ميغا واط لمنطقة رأس العين فقط.

المحطة خارج الخدمة

تقع محطة علوك 5 كيلومتر شرقي مدينة رأس العين، التي سيطرت عليها القوات التركية وفصائل المعارضة المسلحة المدعومة منها في تشرين الأول/أكتوبر 2019، حيث تغذي مناطق واسعة تبدأ من ريف منطقة أبو راسين شمالاً، مروراً ببلدة تل تمر ومدينة الحسكة، وصولاً إلى الهول وحتى مركدة، وانتهاء ببلدة صور جنوباً على امتداد نحو 200 كيلومتر، بحسب الرئيسة المشتركة لمكتب المياه التابع للإدارة الذاتية، سوزدار أحمد.

وكانت القوات التركية قد أوقفت ضخ المياه من محطة علوك لـ 5 مرات منذ شباط/فبراير الماضي، لكن بعد آخر إيقاف في 7 أيار/مايو الماضي، لم تقم بتشغيل المحطة بكامل قوتها، بحسب ما قال سوزدار أحمد، لـ”ماري”، فإن “القوات التركية حالياً تشغل 3 عنفات و 15 بئر فقط، من أصل 8 عنفات و 30 بئراً”، إذ انخفضت نسبة ضخ المياه إلى “أدنى مستوياتها التاريخية، وهي نحو 30%”، بحسب ما قالته أحمد لـ “ماري”.

وتصف أحمد الوضع الحالي للمحطة بأنه “خارج الخدمة” كون الكميات الواصلة من المياه قليلة بالمقارنة مع الكميات المطلوبة والمعتادة.

لكن، مسؤول مكتب الخدمات في المجلس المحلي لمدينة رأس العين، التابع للمعارضة السورية، عدنان الجدعان، قال: “إن مجموع الآبار التي تضخ إلى مدينة الحسكة هو 30 بئر والذي يعمل منها الآن 24 بئر أي تعمل بنسبة أكثر من 85% وهناك 6 آبار تحتاج إلى صيانة اعتيادية”، مضيفاً “من المفترض أن تأتي ورشة من مديرية المياه في الحسكة لتقوم بصيانتها، ولم تأتِ حتى الآن، ولو كانت هذه الآبار تعمل بشكل طبيعي لوصلت المياه بنسبة 100%”، مؤكداً “لم يتم إيقاف أي بئر من قبلنا، إنما هي عبارة عن أعطال تحتاج إلى صيانة من قبلهم”.

وأضاف الجدعان لـ”ماري” أن “ما يطلق عليه الإدارة الذاتية تقحم عداءها لتركيا والجيش الوطني السوري في كل التصريحات التي تصدرها لترفع من سعرها لدى من يدفع لها ويدعمها”. 

وختم الجدعان “من حيث المبدأ وحرصاً على أهلنا في كل المناطق نرغب بالالتزام بالاتفاق، في ذات الوقت نريد التوازن بين المناطق حسب الحاجات، يعني يجب أن يكون هناك عدالة فأهلنا المدنيين في الحسكة حالهم كحال أهلنا في مناطق نبع السلام من حيث الحاجة للمياه والكهرباء، والذي يحدد مستقبل الاتفاق هو التزام الطرف الآخر”.

حبس المياه

لم يتوقف الأمر عند محطة علوك فقط، بل تجاوز ذلك، ليصل إلى أهم مصادر سوريا المائية، وهو نهر الفرات القادم من تركيا، والمار بسوريا والذي يصب في “شط العرب” بالعراق. ففي منتصف نيسان/ أبريل الماضي، انخفضت كمية المياه القادمة من تركيا إلى أدنى مستوياتها، والتي بلغت نحو 200 م3/ثا، بعد أن كانت تصل ببعض الأحيان إلى نحو 1000 م3/ثا، لكن وسطياً كان التدفق يتجاوز الـ 500م3/ثا، بحسب إدارة السدود في شمال سوريا.

وتنص اتفاقية مشتركة بين سوريا وتركيا، وقعت عام 1987، على أنه يجب أن يزيد معدل تدفق مياه نهر الفرات عن 500 م3/ثا، على أن يتم تمرير نحو 58% منه للعراق، بينما تستفيد سوريا من الباقي، بحسب اتفاقية ثانية وقعت بين سوريا والعراق عام 1989، لكن بحسب الأرقام الواردة حالياً للمياه المتدفقة من تركيا إلى سوريا، فإن نسبة المياه القادمة لا تصل إلى 40% مما كانت عليه سابقاً.

وقال عضو الإدارة العامة لسدود شمال سوريا، محمد خليل طربوش، في تصريح خاص لـ”ماري”: “إن الكميات القليلة للمياه تؤثر على عمل العنفات، فالمياه الواصلة لسد تشرين لا تستطيع تشغيل سوى عنفة واحدة من أصل 6 عنفات، وعنفتين من أصل ثمانية في سد الطبقة”.

عطش وظلام

قال طربوش، أنهم قاموا بتقنين الكهرباء في مناطق شمال وشرق سوريا إلى 13 ساعة فقط بعد أن كانت أكثر من 20 ساعة يومياً، وأردف “إذا استمر الوضع هكذا ستنخفض إلى 8 ساعات”، مما يعني حرمان السكان من الكهرباء معظم اليوم.

لكن، وبحسب مصادر أهلية، فإن مشكلة تقنين التيار الكهربائي في محافظة الحسكة تعود إلى ما قبل انخفاض منسوب مياه نهر الفرات، إلا أن الإدارة الذاتية تصر على استخدام هذه الملفات لتبرير تقصيرها.

مع ذلك، قالت مديرة مكتب الطاقة في الإدارة الذاتية، آهين سويد، بأنه قبل انخفاض منسوب مياه الفرات، “كانت السدود تنتج 120 ميغا واط/ساعة وعلى مدار اليوم بالكامل، وفي كافة المدن والنواحي”، لكن الانخفاض في كمية المياه المتدفقة أثر على ذلك، فـ”اليوم بات بإمكان السدود مد المدن بـنحو 12 ساعة فقط بالكهرباء، وبقوة 80 إلى 90 ميغا واط/ساعة”.

وأضافت سويد في حديثها لـ”ماري”، أن أولوية توزيع الكهرباء في الوقت الحالي هي “للمشافي والأفران والمراكز الحيوية”، لذلك يعاني السكان من نقص في ساعات الكهرباء، لا سيما مع قدوم فصل الصيف المعروف بحرارته المرتفعة في مناطق شمال سوريا.

“لا قانون إنساني، ولا سماوي”

حول ممارسات تركيا بخصوص مناطق شمال وشرق سوريا، والتي تديرها الإدارة الذاتية، قال المتحدث الرسمي للإدارة، لقمان أحمي، في تصريح خاص لـ”ماري”: “إن تركيا دولة معتدية ومحتلة (…) وتستخدم جميع السبل لأجل التضييق على سكان مناطقنا وتهجيرهم”.

إذ تتهم الإدارة الذاتية تركيا بين الحين والآخر، بتنفيذ عمليات تهجير قسري للسكان من مناطق رأس العين وتل أبيض وعفرين، وإحداث عملية تغيير ديمغرافي.

وأضاف أحمي، تركيا “تستخدم مياه نهر الفرات للتضييق علينا، كي لا نستفيد منه في إنتاج الكهرباء، وتقطع المياه عن سكان مقاطعة الحسكة، وتريد بذلك أن تهجر سكان المنطقة الأصليين”.

وفي نهاية حديثه قال المتحدث بإسم الإدارة: “إن تركيا دولة لا تراعي أي قانون، لا قانون إنساني، ولا قانون سماوي، فهي تبيح لنفسها كل شيء، قتل، تدمير، احتلال، تهجير، حرق محاصيل زراعية، قلع أشجار، نهب آثار وتدميرها، مادام ذلك يحقق لها مصالحها”.

قضم أراضٍ جديدة

تسيطر تركيا حالياً على مدينتي رأس العين وتل أبيض شرقي نهر الفرات، ومدن جرابلس، الباب، إعزاز، عفرين وإدلب غربي الفرات، إلى جانب فصائل المعارضة المسلحة المدعومة منها، وتبلغ نسبة السيطرة نحو 1% من مجمل الأراضي السورية.
الباحث في مركز الفرات للدراسات(مقره القامشلي)، وليد جولي فسر ممارسات تركيا بخصوص المياه والكهرباء على أنها محاولة لقضم تلك الأراضي وضمها للدولة التركية، مثل “لواء اسكندرون وقبرص”.

وقال جولي في حديثه لـ”ماري”: “الشيء الوحيد الذي لا يقبل الجدال عليه حول أسباب احتلال تركيا للأراضي السورية، هو التوسع على حساب دول الجوار، وجميع السياسات التي تمارسها في المناطق المحتلة تصب في هذا الاتجاه، سواء أكان  عمليات التهجير القسري أو سياسة التتريك”.

رقابة دولية لضمان المياه والكهرباء

شدد بسام الأحمد، مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، منظمة حقوقية سورية، مقرها باريس، على أنه “يجب تحييد مشكلة المياه والكهرباء والموارد الأخرى، التي يتم الاستفادة منها خاصة في ظل هذا الوضع الحرج ووجود مشاكل كالحرائق وجائحة كورونا”، مضيفاً “يجب أن يستفيد منها جميع السكان المحليين في أي طرف خاضعة لأي سيطرة، وعدم إخضاعها أي سلطة أو جهة تحاول الابتزاز لغرض المكاسب على الأرض”.

وأفاد الأحمد في حديثه لـ”ماري” “هناك تقارير تتحدث عن وجود ما يصل إلى 450 ألف أو 600 ألف مدني يستفيدون من هذه الموارد”، لذا “يجب تحييدها وأن تخضع لمراقبة دولية وعدم إخضاعها لسيطرة أي طرف”. مؤكداً “لا يوجد أي اتفاق طويل الأمد للأتراك، ودائماً يتم التنصل من الاتفاقات، ودائماً ما تلجأ تركيا للابتزاز سواء كان لقوات سوريا الديمقراطية أو روسيا، أو هناك اسباب خفية قد نجهلها”.

وأضاف الأحمد “لا يمكن الوثوق بروسيا وتركيا كورقتي ضمان للمنطقة، التجربة السورية أثبت العكس، عملت الدولتان على إحداث تغيير ديمغرافي لبعض المناطق، والتنصل من الاتفاقات والتفاهمات التي أبرمت مع الأطراف المسيطرة على الأرض”.

وختم الأحمد كلامه بالقول: “الولايات المتحدة لها نفوذ على تركيا، لكن دائماً ما يحاولون الابتعاد عن التدخل، في حال تضاربت المصالح التركية والمصالح الكردية شرق سوريا، دائماً ما تقف أميركا إلى جانب تركيا حتى لو انعكس الأمر سلباً على السكان المحليين”.

وبينما ما يزال ملف المياه قيد الرهانات الدولية، تنتظر أم محمد لأكثر من ساعة قدوم صاحب الصهريج لتعبئة المياه في منزله، لكن صاحب الصهريج لم يأتِ، واكتفى بإرسال رسالة نصية مفادها “أن مياه صهريجه نفدت، نتيجة الطلب المتزايد عليه، وسيحاول القدوم يوم غد”. وبذلك لن يكون بمقدور عائلة أم محمد تنظيف أواني منزلها المتسخة، ولا حتى استحمام طفليها.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق