Mari

الدراما السورية بين حرية الإبداع وسيف الرقيب

عمّان – تكررت في الأعوام الأخيرة ظاهرة منع المسلسلات السورية بعد إنتاجها وحصولها على الموافقات الرسمية للعرض، كان آخرها إيقاف مسلسل “الجوكر” الذي أنتجه محمد قبنض، وهو عضو مجلس شعب ومن المقربين للحكومة السورية، بعد عرض الحلقة الأولى منه مطلع شهر رمضان الحالي.

لكن سبب المنع هذه المرة مختلف عما سبق ولايحمل طابع سياسي، حيث اعتبر العمل مهين للجامعات السورية وكوادرها، خاصة بعد أن ظهر على الشاشة “لوغو” الجامعة الخاصة التي صور فيها العمل، ليأتي قرار المنع من قبل “لجنة صناعة السينما” السورية بعد اعتراض رئيس مجلس إدارة الجامعة فيصل عباس والهيئة التدريسية، رافضين ما تم طرحه من قضايا فساد وجرائم طالت الطلاب والمدرسين وأظهرت الجامعة على أنها وكر فساد.

ولعل أبرز الملاحقات الأمنية في المرحلة السابقة  كانت في شهر أيلول/سبتمبر الماضي، عندما أصدرت الحكومة قراراً يقضي بالحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة لشركة “إيبلا الدولية للإنتاج والتوزيع الفني” بتهمة التصدير تهريباً، في إشارة إلى مسلسل “دقيقة صمت” الذي ينتقد مكامن الفساد الأمني داخل مؤسسات الدولة.

أيضاً، في أواخر شهر كانون الثاني/يناير الماضي، وبعد صدور”مرسوم جمهوري يشدد العقوبة على المتعاملين بغير الليرة السورية” بعدة أيام، داهمت عناصر أمنية مقر شركة “غولدن لاين” لأسباب تتعلق بالتعامل بالعملة الأجنبية، وقامت بالقبض على أصحاب الشركة ومدير الإنتاج، وصادرت بعض موجودات الشركة، ومبالغ مالية بالعملة الأجنبية، وتكرر الأمر مع المخرج فادي سليم بتهمة التعامل بالدولار الأميركي، مما دعا عدداً من الفنانين للدفاع عنهم عبر صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي مطالبين إنصاف الشركة التي دفعت عجلة الدراما السورية، وحافظت على ارتفاع السوية الفنية في ظل الحرب والأزمة الاقتصادية. 

دراما تكرّس الرواية الرسمية!

لاقت الكثير من الأعمال الفنية السورية انتقادات عدة من قبل ناشطين ومتابعين ونقاد خلال السنوات التسع الماضية، بما تحمل هذه الأعمال من رسائل تشوه منظمات ومؤسسات المعارضة السورية ومناصريها.

صورة تظهر جثة رحاب العلاوي، أخذت من مسلسل “مقابلة مع السيد آدم”

فبعد مشهد الكيماوي الذي أدته الممثلة أمل عرفة العام الماضي في مسلسل “كونتاك” حول اتهام الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) بافتعال مسرحيات مضللة وكاذبة، عاد الكاتب نفسه (شادي كيوان) في هذا الموسم ليقدم مسلسله الجديد “مقابلة مع السيد آدم”، إذ يقوم مخرج العمل فادي سليم باستخدام صورة الشابة رحاب العلاوي، كصورة لضحية جريمة قتل ضمن سياق المسلسل، لكن هذه الصورة، هي واحدة من تلك الصور التي سربها الضابط السوري المنشق “قيصر” عام 2015.

ورحاب التلاوي ناشطة سورية من محافظة دير الزور، اعتقلت في دمشق عام 2013 بتهمة مساعدة المتظاهرين ليتم تصفيتها بعد ذلك داخل سجون السورية، بحسب وسائل إعلام معارضة.

ورغم الانتقادات الواسعة التي وجهت للدراما السورية في سنواتها الأخيرة، يراها البعض بأنها لازالت تحمل طابعاً جيداً في ظل الظروف السياسية والإقتصادية الصعبة التي تمر فيها البلاد، وبحسب محمد أحمد (اسم مستعار)، مدير إنتاج في إحدى شركات إنتاج الدراما في دمشق، “نلاحظ أن مستوى الأعمال من الناحية الفنية والاخراجية لازالت أعمال ممتازة وقوية ومشهود لها عند الكثير من الجماهير المحلية والعربية” مستدركاً “مع ذلك، هناك الكثير من النصوص المطروحة ذات المستوى التجاري، وبلغ هذا الأمر السيء ذروته منذ 2013 حتى 2017، باستثناء قلة قليلة منها”.

وأضاف أحمد في حديثه لـ”ماري” أن شركات الإنتاج “لم تتأثر من حيث الكم والمردود المادي بما حدث في البلد بعد 2011، خاصة أننا أصبحنا أمام سوق كبير من النصوص الدرامية المكتوبة”، موضحاً “ما أثر سلباً هو قبول شركات الإنتاج لأي نص يحمل أفكار تسويقية مطلوبة”، ومثال ذلك بحسب أحمد، “مسلسل بقعة ضوء، الذي تحول في أجزائه الأخيرة من ساخر اجتماعي إلى ساخر سياسي مبالغ فيه”.

الدراما كأداة لامتصاص ضغط الشارع 

تشهد الدراما السورية خلال السنوات الأخيرة، رفعاً في السقف الممنوح من الحكومة للأعمال الفنية، إضافة إلى ما يصفه البعض “تساهل في الرقابة” على الأعمال الفنية، إلا أن الكاتب والروائي السوري المعارض فارس الذهبي، يفسر ذلك في أنه “لعبة قديمة يلعبها النظام السوري، وهي نظرية فيزيائية قبل أن تكون نفسية، بمعنى أن تنفيس القليل من ضغط البخار قد يجعل القدر يتجنب الانفجار”.

إذ يمنح التلفزيون والإعلام السوري صورة للمواطن بأنه “هناك تغيير وانتقاد ومحاسبة وإدانة للفاسدين وللظلم، لكن على أرض الحقيقة لا شيء يتغير، وكأن بالنظام يقول خذوا كل شيء افتراضي، واتركوا لي الأرض والسلطة” بحسب ما قال الذهبي، لـ”ماري”، مضيفاً “لا بأس بأن تنتقد النظام في المسرح أو في التلفزيون، لكن يحظر ذلك في الشارع”.

ويتفق، الممثل والمخرج السوري نوار بلبل، مع الذهبي، في أن رفع السقف للأعمال الدرامية، “عملية مدروسة عبر مقياس معين يحدده النظام الذي يمتلك تيرمومتر دقيق في الجانب الرقابي”، حسب وصفه. موضحاً في حديثه لـ”ماري”، أن “النظام يسمح برفع السقف لمستوى محدد لا يمكن تجاوزه إطلاقاً، وهو من يقرر متى وكيف يتم ذلك بناء على ماتعكسه الحالة في الشارع”.

ودلل بلبل على ذلك، بأنه “ما كان يحصل في مسلسلي مرايا، وبقعة ضوء سابقاً”، بينما “الأعمال التي تقدم للمشاهد سطوة رجال المخابرات وماشابه، تحمل رسائل موجهة للجمهور الذي يجب أن يعرف تماماً أن هذا العمل يبرز مكامن القوة والسطوة التي تزرع الخوف في العقل الباطن عند المتلقي”.

سينما سورية في مهرجانات عربية وعالمية

لم تقتصر الدراما السورية على طرح أعمالها محلياً أو في العالم العربي، بل قامت بترويج بعض الأفكار التي تصب في صالح الحكومة السورية للسينما العالمية، وبدأت تصدر بعض الأعمال التي قام أصحابها بدورهم في المشاركة بمهرجانات أقيمت في دول عربية وأوروبية، فبعد النجاحات التي حققتها بعض الأعمال الفنية المناهضة للحكومة السورية خلال مشاركتها في مهرجانات عالمية، شارك أيضاً في هذه المهرجانات العديد من الأعمال التي أنتجت تحت عباءة الدولة السورية.

إذ حظي فيلم “مسافر دمشق – حلب”، للمخرج السوري باسل الخطيب، وبطولة دريد لحام، عدداً من الجوائز، في حفل توزيع جوائز مهرجان الإسكندرية لسينما البحر الأبيض المتوسط، في تشرين الأول/أكتوبر 2018. حيث أراد الفيلم إيصال فكرة أن كل ما حصل في سوريا من قتل ودمار وتشريد، سببه وجود عناصر إرهابية فقط، كما تظهر فيه مشاهد الدمار التي حلت بمدينة حلب، ملقياً المسؤولية على عاتق المعارضة السورية وحدها. 

وفي مهرجان “مالمو للسينما العربية”، الذي أقيم في السويد، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، شارك المخرج السوري الليث حجو في فيلمه “الحبل السري”، الذي خلق جدلاً كبيراً، إذ يحكي الفيلم قصة زوجين تعرضا للحصار، ويوضح في أحد مشاهده تعرض الزوجة لمخاض مبكر في ظل استحالة وصول القابلة إليها بسبب وجود قناص من المعارضة يترصد العابرين.

إلا أن الغريب في الفيلم، بحسب ما نشرت صفحة “سوريون مستمرون في مالمو” على “فيسبوك”، إن “تصوير فيلم الحبل السري، كان على أنقاض مدينة الزبداني المدمرة، وهو أشبه ما يكون بتصوير حفلة فوق مقبرة جماعية”.  

مع ذلك، اعتبر فارس الذهبي، أن المشاركة في المهرجانات والجوائز حق للجميع، وأن “فكرة المنع هي فكرة خاطئة حتى ولو كان العمل من صناعة النظام”، مستدركاً “لكن بشرط أن يترافق الأمر بوعي من منظمي تلك العروض، وإلقاء الضوء على الحقيقة، أو فتح باب النقاش حول مضمون الفيلم”.

“لا يكفي عرض فيلم مع الثورة أو ضدها، يجب فتح باب العقل والفهم لجعل الجمهور يستوعب ما يجري في المسألة السورية”.

لكن، نوار بلبل، اعتبر أن مشاركة هذه الأعمال السورية في مهرجانات عربية “ماهي إلا امتداد سري أو علني لترسيخ علاقة المخابرات السورية بالدول العربية، وبالتالي هي اعتراف و تثبيت لشرعية النظام ولو بصورة مبطنة”.

ذات الأمر، بحسب بلبل، ينطبق على المشاركة في المهرجانات الأوروبية، عبر ما أسماه “لوبي النظام” في أوروبا، إلا أنها وفقاً لبلبل “ندرة نادرة”، معتبراً أن “الشارع الأوروبي استطاع كشف تلك الأكاذيب المفبركة وبالتالي مقاطعتها”.

وخلال السنوات الأخيرة، أظهرت الإمارات العربية المتحدة اهتماماً واضحاً بالدراما السورية، إذ عرضت شاشات التلفاز الإماراتية العديد من الأعمال الفنية السورية، إلا أن الفنان السوري بلبل، اعتبر أن ذلك يندرج ضمن ما وصفه بـ”التطبيع بين دولة الإمارات والنظام السوري”. مضيفاً، “بينما لو قمنا نحن كمعارضة بصناعة عمل يكشف الواقع فقط كحد أدنى، دون أن نعرج على جرائم النظام، لا يمكن ولا بأي شكل أن تتبناه الإمارات ومحطاتها، وكل ذلك يرجع للسياسات الواضحة التي لا لبس فيها بين الدولتين”.

لكن، من وجهة نظر محمد أحمد، فإن “شركات الإنتاج غير المحلية، من حقها أن تضع يدها على المواد الخام الجيدة فنياً، وتحويلها لسلعة فعالة، قادرة من خلالها على المنافسة في السوق”.

ولم ينفِ أحمد “تراجع بعض شركات الإنتاج المحلية مقارنة بالشركات الغير سورية” موضحاً أن، “ما بعد 2011 اعتمدت الكثير من شركات الإنتاج على نصوص متوسطة الجودة، وعلى وجوه شابة وجديدة، لعدة أسباب أهمها: التوفير المالي؛ لأن الفارق كبير جداً مابين المواهب الجديدة وأصحاب الخبرات”، إضافة إلى “هجرة عدد كبير من نجوم الصف الأول في الدراما السورية”.

**

هذا التقرير هو جزء من ملف خاص لـ”ماري” عن الفن والأدب السوري.

Exit mobile version