حلب – في رحلة البحث عن مكان آمن في شمال غرب سوريا، الذي يشهد موجة نزوح كبيرة بفعل قصف القوات الحكومية وعملياتها العسكرية هناك، تساءل أبو محمد في حديثه مع “ماري” “يا ابني وين بدنا نروح بحالنا؟ والله العظيم تقطعت بنا السبل”.
وقد وثق فريق “منسقو استجابة سوريا” نزوح 1.695.516 نسمة في شمال غرب سوريا منذ توقيع اتفاقية سوتشي في 17 أيلول/سبتمبر 2018 حتى نهاية شهر كانون الثاني/يناير 2020. خلال هذه الفترة سيطرت القوات الحكومية على عدة مناطق في المنطقة، بما يخالف ما جاء في مباحثات أستانة بضمانة روسية-تركية-إيرانية.
وبالنسبة لأبي محمد، وهو من بلدة كفرنبودة بريف حماة الشمالي، هذه ليست رحلة النزوح الأولى، إذ سبقها رحلتين سابقتين، الأولى كانت قبل عام، عندما هرب مع زوجته وأبنائه الستة من بلدته إلى مدينة خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي، فيما كانت الثانية في آب/أغسطس 2019، بعد حملة عسكرية للقوات الحكومية على خان شيخون أجبرته على النزوح منها إلى معرة النعمان.
يروي أبو محمد رحلة نزوحه الثالثة مع عائلته، عبر جراره الزراعي، التي استمرت ست ساعات متواصلة، من معرة النعمان، التي سيطرت عليها القوات الحكومية، الأربعاء الماضي، إلى مدينة عفرين بريف حلب الشمالي، أملاً بالوصول إلى مكان بعيد عن العمليات العسكرية، كما قال لـ”ماري”، لافتاً إلى أنه أنفق جزءاً مما يحمله من نقود ثمن وقود للجرار، وبقي معه بضعة آلاف من الليرات السورية ربما تكفي العائلة من طعام وشراب ليومين أو ثلاثة في أحسن الأحوال.
وعند وصوله إلى مدخل عفرين، خضع أبو محمد لتحقيق من حاجز للقوات التركية وفصائل المعارضة هناك، إذ وجه ضابط تركي الأسئلة عبر مترجم معه: ماذا تحملون معكم؟، وهل أنتم مقاتلون؟، وإلى أين تذهبون؟ وغيرها من الأسئلة إلى أن سمح له في النهاية بالدخول على عكس عدد من العائلات التي تم منعها.
وجد أبو محمد منزلاً دون إكساء، وأرضه مفروشة بالحصى، فأغلق نوافذه بالنايلون، وحطّ رحاله فيه، معتبراً حالته أفضل بكثير من آلاف النازحين الذين يفترشون الطرقات لعدم عثورهم على مأوى.
نازحون في الطرقات
فيما يبيت أبو محمد بين أربعة جدران قد لا تصلح للسكن، فإن أبو عمر، وهو نازح من مدينة معرة النعمان أيضاً، كان أسوأ حظاً، إذ انتهى به المطاف بعد رحلة نزوح استمرت لأيام في أحد شوارع عفرين بلا سكن!.
اضطرت عائلة أبو عمر، ومئات العائلات الأخرى، أن تفترش الطرقات والأرصفة، وسط أجواء باردة ماطرة، في منظر أصبح اعتيادياً في ريف حلب الشمالي، فيما يحصلون على الطعام من المساعدات الإنسانية التي تقدمها المنظمات الإنسانية هناك، أو من تبرعات يقدمها السكان المحليون.
كذلك، انتهت رحلة النزوح بالشاب جميل المرعب في أحد شوارع مدينة اعزاز بريف حلب الشمالي، ولكنه اتخذ من موقف للباصات في المدينة مسكناً له، بعد أن لفّ قماش خيمة قديمة حول الموقف، كما قال لـ”ماري” معتبراً أن “المكان رغم ضيقه وسعنا أكثر من مدننا التي هجرنا منها قسراً”، وحتى لا ينتظر المساعدات الإنسانية “التي ربما لن تصلنا” قرر سريعاً “البحث عن عمل”.
أزمة إنسانية
فيما كان النزوح إلى مدن وبلدات ريف إدلب الشمالي أو مخيماتها خياراً للنازحين من ريف إدلب الجنوبي والشرقي وحلب الغربي، فإن ريف حلب الشمالي، الواقع تحت النفوذ التركي كان خياراً لنازحين آخرين.
وبحسب تقديرات المنظمات الإنسانية العاملة في شمال غرب سوريا، فإن عدد النازحين خلال شهر كانون الثاني/يناير الماضي بلغ نحو 250 ألف نسمة، “وصل منهم نحو 100 ألف نازح إلى ريف حلب الشمالي”، كما قال لـ”ماري” قتيبة سيد عيسى، رئيس منظمة “بنفسج”.
مقابل هذه الأعداد، كانت الاستجابة في ريف حلب الشمالي ضعيفة، إذ فيما أنشأ المجلس المحلي في مدينة اعزاز “أربع مخيمات مؤقتة في راجو وعفرين واعزاز وجنديرس، ضمت نحو 160 خيمة فقط” كما كشف محمد حاج علي، رئيس المجلس المحلي للمدينة في حديثه إلى “ماري” فإنه اعترف بأن العدد لا يكفي لتلبية احتياجات آلاف النازحين، لافتاً إلى أن “المجلس يعمل على خطة استجابة أولية لمساعدة النازحين وتأمين مساكن مؤقتة لهم”.
وفي ناحية راجو، شمال غرب عفرين، تم إنشاء مخيم للنازحين الجدد، يضم 40 خيمة نصبت تحت الأشجار، كما قال محمد عجمي لـ”ماري” وهو من أهالي البلدة، إلا أن عناصر من فصائل المعارضة هناك “احتكروا الخيم، وقاموا بتأجيرها بأسعار تصل إلى 25 ألف ليرة سورية (25 دولار أمريكي) في الشهر”.
وكذلك، بحسب قوله فإن بعض قيادات المعارضة قامت باستئجار بعض المنازل التي تم تجهيزها لاستقبال النازحين في ناحية شران لذويهم وأقاربهم ممن وصلوا إلى المنطقة، ولم تتمكن “ماري” من صحة الادعاء من مصدر مستقل.
خذلان دولي
قال عضو “هيئة الإغاثة الإنسانية” محمد الجندلي لـ”ماري” أن “الاستجابة الأولية للنازحين من الشهر الأخير فقط تبلغ 67 ألف سلة غذائية ومأوى، ونقف شبه عاجزون عن تقديم المساعدة، فما بالك إذا ازداد العدد أكبر، في حال استمر النظام المدعوم من روسيا وإيران في حملته؟!”.
وأضاف الجندلي “نشعر بخذلان من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي”، وهو ما ذهب إليه رئيس المجلس المحلي في مدينة اعزاز محمد حاج علي، الذي حذّر من كارثة إنسانية قد تحدث “في ظل غياب الدعم أو الإرادة الدولية لوقف المذبحة أو مساعدة الناس” لافتاً إلى أن “أعداد النازحين في ازدياد مستمر، والإمكانيات قليلة جداً، وبالكاد نستطيع تأمين بعض السلال الغذائية”.
وفيما اتهم زاهر سحلول، مؤسس “مبادرة الإيمان” السورية الأمم المتحدة وأمينها العام أنطونيو غوتيريش بـ”البطء في الاستجابة للحال المأساوية، وكان عليهم أن يجعلوا من إنهاء الأزمة أولوية”، فإنه “دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى زيادة المساعدات الإنسانية للنازحين السوريين، وممارسة كل الضغوط الدبلوماسية على روسيا لوقف القصف على إدلب”.
البحث عن عمل
بعد وصول النازحين إلى ريف حلب الشمالي، أو ما تعرف بمناطق “درع الفرات”، وهي مناطق تقع تحت سيطرة الجيش الوطني السوري (المعارض)، المدعوم من تركيا، تبدأ مرحلة أخرى من التحدي، تتمثل في تأمين سبل العيش.
وفيما قد يخلق بعض النازحين فرص عمل، كأمثال بشير العلي، النازح أصلاً من الغوطة الشرقية إلى بلدة كفريا بريف إدلب، ومنها وصل إلى مناطق درع الفرات، فإن أهالي إدلب “في المجمل مجتمع زراعي يعتمد على خيرات أرضه من قمح أو زيتون أو غيره كمورد رئيسي لهم، غير أنهم حالياً لا يملكون أرضاً يعيشون من إنتاجها، ولا يملكون صنعة أو حرفة توجد لهم فرصة عمل في مكان إقامتهم الجديد” كما قال لـ”ماري”.
وفي المقابل، فإن المساعدات الإنسانية ليست حلاً بالنسبة لهؤلاء، إذ رغم وجود مؤسسات تقدم مساعدات غذائية للنازحين “فإن العملية لا تجري بطريقة منتظمة، بالإضافة إلى المشكلات التي تتخلل عمليات التوزيع. وهناك من يحصل على حصتَين أو ثلاث حصص في حين أنّ عائلات بأكملها لا يُتاح لها الحصول على حصة واحدة” بحسب قول العلي.
فوق ذلك، فإن النازح إلى ريف حلب الشمالي يقع أمام أمرين، كما ذكر العلي، “إما البحث عن سكن مجاني أو منطقة إيجارات السكن فيها منخفضة، وهذه المناطق لا يتوفر فيها فرص عمل، والتنقل منها إلى مناطق أخرى مكلف جداً، أو السكن في مناطق تتوفر فيها فرص عمل، وبالتالي يدفع النازح كل ما يحصل عليه لسداد أجرة المنزل، وقد لا يستطيع”.
إذ بحسب العلي: “متوسط أجر العامل اليومي يتراوح بين 1500 و2000 ليرة سورية، أي (1 أو 2 دولار أمريكي)، في حين قد تصل أجرة منزل غير مفروش في تلك المناطق إلى 100 ألف ليرة سورية، أي (95 دولار أمريكي).