إدلب – استأنفت هيئة تحرير الشام، في أيار/مايو الماضي، عمل ما يسمى جهاز الحسبة المعروف بـ”سواعد الخير”، والمتخصص في مجال “الدعوة الدينية” و”الإصلاح الاجتماعي”، تحت مسمى “مركز الفلاح”، الذي يتخذ من “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” شعاراً له.
وفي منتصف العام 2019 أوقفت “تحرير الشام” عمل مركز “سواعد الخير”، الذي أنشأته في 28 آذار/مارس 2018، على خلفية احتجاجات شعبية ومظاهرات طالبت بإيقاف عمل الجهاز، نتيجة لتدخله في الحياة العامة للسكان وفرضه قيوداً وأنماطاً معينة في السلوك.
ويعمل عناصر مركز الفلاح في التدخل بحياة الناس في أدق تفاصيلها، من قبيل: منع المطاعم من وضع الموسيقى والأغاني، أو تقديم النراجيل للزبائن، إضافة إلى منع محال الألبسة من نشر مجسمات لعرض الألبسة، وكذلك إجبار الفرق الإنسانية والإغاثية على القيام بفصل جندري لموظفيهم.
إذ يعتمد المركز في عمليات المراقبة التي يقوم بها على أشخاص تابعين له يراقبون الفرق الإنسانية ومدى التزامها بتطبيق التعليمات، وكل ذلك يتم بدعم مباشر من القوى الأمنية التابعة لهيئة تحرير الشام.
ويتكون مركز الفلاح من مجموعة من عناصر “تحرير الشام”، الذين خضعوا لعدة دورات شرعية لدى شيوخ الأخيرة، ويعملون بمهام مختلفة، كما يتجولون في شوارع إدلب، بدعم من قوات أمنية تابعة لـ”الهيئة”.
التسويق الدولي يتطلب تسميات “عصرية”
خلال سنوات عمله امتلك جهاز الحسبة سلطة عليا من خلال “الاعتقال المباشر لأي مخالفة شرعية للمدنيين، مثل: سب الذات الإلهية أو الدين الإسلامي، أو حتى ما يعتبر لبساً فاحشاً”، وفقاً للشيخ محمود (اسم مستعار)، شرعي سابق في هيئة تحرير الشام، عمل في جهاز الحسبة التابع للهيئة في ريف إدلب الجنوبي.
وقال الشيخ محمود في حديثه لـ”ماري”، شريطة عدم الكشف عن هويته، أن جهاز الحسبة “كان يتحرك تحت إشراف مباشر من قيادات الصف الأول في تحرير الشام، كـ أبو اليقظان المصري، وأبو الفتح الفرغلي، وهما من الجنسية المصرية”.
وجاءت خطوة إنشاء جهاز “سواعد الخير”، في 28 آذار/مارس 2018، بحسب الشيخ محمود بمثابة “تطوير” لجهاز الحسبة، الذي يقوم عليه دعاة وداعيات، “يوجهون النصح للمدنيين”. لكن، نتيجة للانتهاكات الكثيرة والمتكررة التي قام بها عناصر الحسبة، والمتمثلة بـ”ضرب النساء من قبل عناصر الحسبة النسائية، والاعتقالات التي قام فيها عناصر الحسبة بحق المدنيين، تسبب ذلك في احتقان أهل المدينة [إدلب]”، وتالياً خروجهم بمظاهرات شعبية مطالبة بإيقاف عمل “سواعد الخيار”، وهو ما دفع “تحرير الشام” في منتصف العام 2019 إلى إيقاف عمل “سواعد الخير”، بحسب الشيخ محمود.
مع ذلك يبدو، أن السبب الرئيسي في إيقاف “سواعد الخير”، وفقاً للشيخ محمود، يعود لكون “قياداته كانت من بعض المهاجرين المحسوبين على التيار المتشدد في الهيئة، لذلك جزء من قرار إلغائه يعود لقرار الهيئة تسويق نفسها دولياً”.
لكن لا يبدو أن الاختلاف كبير بين “سواعد الخير” و “الفلاح”، إذ يمتلك عناصر الأخير الصلاحيات والمهام ذاتها التي كانت ممنوحة لـ”سواعد الخير”، من قبيل: “اعتقال الشبان الذين يرتكبون مخالفات، وأعضاء الفرق الإنسانية الذين توجه لهم تهم تحرش بالنساء، إضافة إلى أن النساء اللواتي يلبسن ملابس قصيرة يتم توجيه إنذارات لهن”، بحسب الشيخ محمود.
ويشرف على المركز الجديد (مركز الفلاح) عناصر من “تحرير الشام”، ويعمل المركز في مدينة إدلب ومحيطها، وفي مركز لحكومة الإنقاذ، كما “ينسق [مركز الفلاح] مع الوزارات [في حكومة الإنقاذ] بشأن تقديم تراخيص عمل للفرق الإنسانية”، إذ “لا تسمح الهيئة لأي مركز [دعوي أو ديني] غير تابع لها بالعمل في مناطق سيطرتها”. إضافة إلى أن “الحواجز التابعة لتحرير الشام تعمل كقوة تنفيذية له”، بحسب الشيخ محمود.
ويترأس مركز الفلاح القيادي السوري في هيئة تحرير الشام “أبو حسن الأتارب”.
مكاتب بمهام “قمعية” مختلفة
يتألف “مركز الفلاح” من عدة مكاتب، وهي: مكتب الدوريات النسائية، المحتسبون، القوة التنفيذية، ومكتب القضاء، إضافة إلى مكاتب ملحقة كمكتب الشكاوى والمتابعة.
ويعمل مكتب المحتسبون بالتجول على المحال التجارية والأسواق ومتابعة ملف الفرق الانسانية، أما مكتب القضاء، فمن مسؤولياته متابعة أمور الشكاوى التي تصل إلى المركز، ويقوم بالتحقيق فيها وإصدار أحكام قضائية، بينما مكتب المتابعة والشكاوى، فإنه يهتم باستقبال الشكاوى من قبل الناس ومتابعتها عن طريق المكتب ومن ثم تحويلها إلى مكتب القضاء.
وقال محمد العمر (اسم مستعار)، ناشط إنساني من مدينة إدلب: “أثناء عمل فريقنا ضمن مدينة إدلب تم توقيف أحد أعضاءه بسبب ذهابه مع زميلاته من الفريق في جولة على أحد المخيمات، وذلك بحجة الاختلاط، وهو ما يمنعه المركز [مركز الفلاح] في مدينة إدلب حيث تم توجيه مذكرة حضور لنا من أجل المناقشة في حل الأمر، وتم الاكتفاء بتوجيه إنذار”.
وأضاف العمر لـ”ماري” “حضرنا للمركز، وأثناء الدخول طلب منا تأمين الهواتف في صندوق الأمانات”، ومن ثم “اجتمعنا مع مدير المركز، كان شاب ملتحي، طلب معلومات كاملة عن فريقنا الإنساني، وأسماء الشباب والبنات وأماكن العمل وطلب بفصل الشباب عن النساء داخل المكتب، بالإضافة إلى ترخيص الفريق عند وزارة التنمية في حكومة الإنقاذ”.
إذ تعمل هيئة تحرير الشام على ضبط تحرّكات المجتمع وتوجّهاته، على المنوال الذي اتبعه تنظيم الدولة (داعش) في هندسة المجتمعات التي وقعت تحت سيطرته، وعبر هذا الجهاز تستطيع “الهيئة” فرض المزيد من القيود على المجتمع ومراقبته عن كثب.
المركز كعنصر توازن أجنحة وتيارات الهيئة
قال الباحث في شؤون الجماعات الجهادية في مركز جسور للدراسات، ومقره تركيا، عرابي عرابي، أن عودة “تحرير الشام” لتفعيل فكرة الحسبة مرة أخرى في مدينة إدلب والمناطق المحيطة بها تحت مسمّى مركز الفلاح، ومنح عناصر المركز مهامّ محدّدة، وصلاحية اتخاذ الإجراءات المشدّدة في حقّ المخالفين، “يجعل من موظفي المركز بمقام الشرطة الدينيّة التي تمتلك توجيه التهم والاعتقال والمحاسبة وتقديم الناس للقضاء”.
وأضاف عرابي في حديثه لـ”ماري” “تحرص الهيئة على الدفع قدُماً لتطبيق هذه الفكرة على الرغم من فشلها السابق لأسباب متعددة، من أجل تعميق التغلغل في المجتمع”، فإلى جانب المؤسّسات الأخرى التي ترتبط بالهيئة بعدة أشكال، فإنّ “فرض مؤسسة جديدة للحسبة تابعة للهيئة ومرتبطة بحكومة الإنقاذ، سيعطيها بُعداً شرعيّاً من ناحية الوجود، كما سيتيح لها تنفيذ سياسات محدّدة تدعمُ الهيئة وتوجهاتها في المنطقة”.
واعتبر عرابي أن “وجود جهاز الحسبة”، وإن كان بأسماء مختلفة، “يعد عاملاً في التوازن الداخلي في الهيئة، نظراً لكون بعض المسؤولين ينتقدون تراخي الهيئة في القيام بواجباتها الدينيّة، وتعيين هؤلاء أو مقربين منهم على رأس الهيئة يزيد –نظريًّا- من تماسكها التنظيمي”.
وبالرغم من أنّ “الهيئة ترى نفسها ضابطاً لملف التنظيمات الجهاديّة وتحركاتها في إدلب، إلا أنها تسعى بالتوازي مع ذلك في تخفيف حدّة التنافر المتوقّع فيما بينها”، ويكون ذلك عبر “فرض هذه الإدارة [مركز الفلاح] كإحدى سبُل تخفيف الاحتقان، نظراً لإمكان مشاركة بقية التنظيمات في أداء مهام الحسبة تحت إدارة المركز الجديد”، وفقاً لعرابي.