غليون: سوريا تحولت من وطن يستحق التضامن والرعاية إلى “غنيمة”

باريس – على مدار تسع سنوات، ولدت العديد من التشكيلات السياسية المعارضة، والتي حاولت قيادة دفة الثورة الشعبية التي اندلعت ضد الرئيس السوري بشار الأسد عام 2011، بدءاً من المجلس الوطني السوري، ومن ثم الائتلاف المعارض، وصولاً إلى هيئة التفاوض، إلا أن جميعها تعثرت في مسيرتها العملية، ولم تحقق أياً من تطلعات الشعب السوري.

كان آخر تلك الأجسام، ما يسمى “اللجنة الدستورية” المكونة من ثلاثة وفود: وفد المعارضة، وفد الحكومة السورية، ووفد المجتمع المدني. إذ تعمل اللجنة، التي ييسر أعمالها مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسون، على كتابة دستور جديد توافقي بين أطراف الصراع في سوريا، ليكون بداية الحل للمعضلة السورية، لكن لا يبدو ذلك قريباً، وفقاً قراءة الدكتور برهان غليون، الرئيس الأول والسابق للمجلس الوطني السوري المعارض.

وقال غليون “في نظري لا أحد من الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في الحديث عن حل يريد الحل. كلهم يريدون البقاء في الحلبة السورية في انتظار أن ينجح في تغيير المعادلات وموازين القوة ويخرج هو وحلفاؤه بالنصيب الأكبر من الغنيمة”. 

وتولى غليون منصب أول رئيس للمجلس الوطني السوري، عند تأسيسه في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، قبل أن يعلن استقالته في أيار/ مايو 2012، إلى أنه تخلى عن مهامه بسبب “انقسامات” بين الإسلاميين والعلمانيين. مضيفاً “لم نتمكن أن نرقى إلى تضحيات الشعب السوري. بالتأكيد لم نلبِ بالسرعة الكافية وبشكل كافٍ احتياجات الثورة”.

الدكتور برهان غليون يفسّر لمراسل “ماري” ماهر الحمدان في هذا اللقاء، أسباب انسحابه من رئاسة المجلس الوطني، ويوضّح موقفه من العملية السياسية الجارية الآن ، ويعرّج على حياته العملية بعد استقالته.


كنت أول رئيس للمجلس الوطني لقوى المعارضة السورية إلا أنك تنحيت بعد أشهر، ما السبب الرئيسي وراء ذلك؟ وهل تعتقد أنك تسرعت في قرارك؟

 لم يكن يخطر لي للحظة أنني سأقود المعارضة السورية في مرحلة من أدق وأخطر مراحل تطور الحياة السياسية في هذا البلد. قضيت سبعة أشهر قبل تشكيل المجلس الوطني في مداولات مع أطراف المعارضة وأحزابها للتوصل إلى اتفاق لتأليف جبهة وطنية تدعم وترفد نشطاء الثورة الشباب الذين كانوا يواجهون ما سوف يتبين أنه أعتى الأنظمة الفاشية والدموية ويفقدون يومياً بين 30 و 50 شهيداً، وأحياناً يرتفع العدد لمئة أو أكثر. 

عندما فشلت المحاولات جميعها، وأعلن في أيلول/ سبتمبر 2011 عن هذا الفشل بقيام هيئة التنسيق بأحزابها ومثقفيها من جهة وإعلان دمشق بأحزابه وشخصياته الأخرى من جهة ثانية، شعرت بأن الوضع لم يعد يحتمل وأن المعارضة لم تتقدم خطوة إلى الأمام وأنها خانت الشعب بالمعنى الحقيقي للكلمة. 

اعتذرت عن المنصب الذي قدمته لي هيئة التنسيق من دون مشورتي، وأخذت على عاتقي من موقعي، كمثقف فوق الانتماءات والنزاعات الحزبية، المبادرة لإعادة جمع المعارضة من جديد بإضافة أطراف أخرى وشخصيات أظهرت نشاطاً في المهجر أيضاً، وبعد لقائين في الدوحة بتسهيل لوجستي من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، اعتقدت أننا توصلنا إلى اتفاق مهم لجمع كلمة المعارضة. وكلف نفسي بمتابعة تنفيذ الاتفاق، لكن لم تمض أيام حتى تملصت منه معظم الأحزاب والتشكيلات.

لكنني اعتقدت، ولا أزال أعتقد، أنه لم يكن هناك خيار لنا عن توحيد المعارضة وطرح بديل للنظام القاتل والدفاع عن هذا البديل في الأوساط الدبلوماسية والدولية وجلب الدعم للثورة الشعبية. 

وتحت ضغط النشطاء الذين تطوعوا لتذليل العقبات بالتواصل عدت ثانية للتواصل مع الأطراف المعنية، وراهنت على ما تطور من قوى شبه منظمة في الخارج تشكل إضافة لقوى الداخل، وبمشقة كبيرة نجحنا في التوصل إلى اتفاق جديد. 

أصرت مجموعة من الشباب المغتربين التي تشكلت في اسطنبول من قبل على إطلاق اسم “المجلس الوطني” بدل “الإئتلاف الوطني”، ولتسهيل الأمور قبلت بذلك، لكن منذ اليوم الأول، وقبل ساعات من إعلان ميلاد المجلس الوطني كاد الاتفاق ينهار ثانية بسبب إصرار أحد الأطراف على تحديد مدة شهر لولاية رئاسة المجلس، وفي النهاية توصل الفرقاء إلى التوافق على ثلاثة أشهر، وكانت هيئة التنسيق الوطني وأحزابها قد تغيبت من دون اعتذار عن المشاركة.

كنت أدرك هشاشة الاتفاق، لكنني كنت أرى أننا تأخرنا كثيراً وأننا إذا لم ننجح بسرعة في تأسيس إطار سياسي يوجه خطى الثوار وينظم نشاطهم فسوف نفقد السيطرة على الأحداث، وسوف تذهب الأمور في كل الاتجاهات. وكان الصراع قد أصبح على أشده داخل صفوف الثوار حول ثلاث مسائل محورية: التدخل الأجنبي، التسلح، والتوجهات الدينية والطائفية. فقبلت الرئاسة بالرغم من كل المضايقات والشروط المجهضة لأي عمل سياسي، على أمل أن نحافظ ما أمكن على وحدة الصف والمحافظة على المبادئ الثلاثة التي انطلقت منها الثورة السلمية ورفض التدخل الأجنبي والإجماع على الدولة المدنية التعددية الديمقراطية.

كان تحقيق هذا الهدف بحد ذاته غاية شبه مستحيلة نظراً للعنف الذي كان يتعرض له النشطاء والذي كان يدفعهم إلى البحث عن مخرج من أي نوع، لكن زاد من تحويله إلى هدف مستحيل التحقيق تخبط مواقف قادة الأحزاب المعارضة المشاركة في المجلس ونزوعها إلى الاعتقاد بأن المطلوب حسم المعركة ضد الأسد ونظامه بأي ثمن، سواء جاء ذلك بالتدخل الدولي أو بتسليح الثورة أو الرهان على القوى الإسلامية بشتى توجهاتها. 

واعتقد أكثرهم إن لم يكن جميعهم بأنني أصبحت العقبة التي تحول دون تحقيق النصر لتشكيكي في هذه الخيارات، وساهم الاعتقاد بأن النصر أصبح قاب قوسين أو أدنى، مع تزايد نفوذ المجلس في صفوف الثورة والتمسك به كممثل عنها، وتنامي اعتراف المجتمع الدولي به واستقباله كممثل للثورة في الأوساط السياسية والدبلوماسية الدولية، من الصين إلى اليابان إلى الاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وغيرها، في تفاقم الضغوط علي شخصياً، وتوجيه الاتهامات لي، ومن ثم تفجر الصراع على منصب الرئاسة الذي كان من الطبيعي أن يكون محوريا في هذا المجال، وصممت بعض الأطراف على انتزاعه، لفرض خياراتها التدخلية والتسلحية، واستخدمت من أجل ذلك، بعلمانييها وإسلامييها معاً، التهمة ذاتها، وهي أنني مثقف بعيد عن السياسة ولا بد من أن يكون على رأس المجلس رجل سياسي يدعو للتدخل الدولي ويبحث عن السلاح للجيش الحر ولا يتردد في إقامة أي تحالفات دولية. 

وفي هذا المناخ المسموم الذي دام طوال مدة الولاية الثانية، والمحاولات المتعددة الأطراف لتقويض موقع الرئاسة، أصبح من المستحيل بالنسبة لي بلورة أجندة سياسية مبدئية وواقعية، ومقاومة أوهام التدخل والعسكرة فحسب ولكن، أكثر من ذلك، أن الفرصة لاستعادة زمام المبادرة ومنع الثورة من الانجراف وراء الأوهام والذهاب في كل الاتجاهات من دون ضابط قد ضاعت للأبد. 

وأدركت أنه لم يبق أمامي سوى أن أقدم اعتذاري للشعب عن فشلي في أن أنجز ما اعتقدت أنني قادر على انجازه، لحماية الثورة من الانحراف، وأضع استقالتي أمام الأطراف المكونة للمجلس، وأسعى، من خارج الرئاسة إلى عمل ما يمكن عمله من أجل المساعدة قدر المستطاع على توحيد الفصائل وعدم تركها ضحية التلاعبات الخارجية. 

لم يكن قرار الانسحاب الذي أصبح لا مهرب منه من قيادة المجلس مؤلماً لما يمثله من فشل شخصي لي فحسب وإنما لأنني شعرت أيضاً أنه كان إخفاقاً كبيراً للمعارضة، وأكثر من ذلك ضياعاً نهائياً لفرصة الحؤول دون انجراف الثورة وخروج الأحداث عن السيطرة، وفي أعقاب ذلك، ونتيجة له، تفاقم أزمة المعارضة التي كنا نراهن عليها لتنظيم الحركة الشعبية، وغرقها في النزاعات والمناكفات الشللية والشخصية، أو بالأحرى انتحارها السياسي الذي لا تزال عاجزة عن الخروج منه، بل عن فهمه والنظر إليه، حتى اليوم.

وكتبت بالتفصيل عن تجربتي في المجلس الوطني السوري في كتابي الأخير “عطب الذات، وقائع ثورة لم تكتمل”.

كيف ترى قيادة المعارضين السوريين للجسم السياسي الذي شُكل لقيادة الثورة السورية بمختلف التسميات التي وجدت من المجلس الوطني إلى الائتلاف السوري وصولاً إلى هيئة التفاوض العليا؟ وأين تكمن المشكلة من وجهة نظرك؟

أعتقد أن المشكلة الرئيسية التي واجهتها الثورة السورية ولا تزال تواجهها هي مشكلة القيادة، وهي المشكلة التي واجهتها الشعوب العربية الأخرى أيضاً، نتيجة غياب الحياة السياسية السليمة والحرة في هذه الأقطار خلال الخمسين سنة الماضية. والتي منعت من نشوء وتطور ونضوج نخب سياسية حية ومستقلة الفكر والإرادة ومرتبطة بالشعب. 

لكن أثر الافتقار إلى القيادة في سوريا كان أعمق وأخطر منه في الأقطار الأخرى على مسيرة الشعوب نحو التغيير بسبب طبيعة النظام الاستثنائية بجميع المعاني والتي حولت حكم النخبة الحاكمة إلى حكم عصابة لا يربطها بالشعب أي رابط، أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي، سوى ما يربط العلقة بجسم الفريسة التي تتغذى على دمها. وقد أضيف إلى ذلك حساسية الموقع الجيوسياسي لسوريا والأزمة الإقليمية المتفجرة التي حولتها إلى مسرح لنزاعات إقليمية ودولية متشابكة.

فقد حرمت طبيعة النظام الاستثنائي والقائم أيضا على أوضاع إقليمية استثنائية، ترتبط بثلاثة قضايا متفجرة ومستعصية معاً منذ عقود، القضية الفلسطينية، وبالتالي النزاع العربي الاسرائيلي، والقضية الإيرانية وما أدت إليه من نزاع إيراني خليجي، والقضية الكردية المعلقة منذ الحرب العالمية الأولى والتي تثير نزاعات ومخاوف في أكثر من دولة شرق أوسطية، أقول حرمت طبيعة هذا النظام العدواني بشكل استثنائي المجتمع السوري من تطوير أي بنية أو هيئة أو مؤسسة مدنية أو سياسية قادرة على أن تتوسط بين الحكم والجمهور في أي لحظة تأزم، مهما كانت بسيطة. 

فلا توجد في سوريا أية هوامش لوجود أحزاب أو نقابات أو جمعيات بل حتى مثقفين مستقلين، مهما كان هامش الاستقلال. الطاعة العمياء وعبادة الفرد والخضوع لأوامر وإملاءات أجهزة الأمن وأي مخبر صغير هي القاعدة للبقاء في سوريا الأسد، وأي خلاف أو تأزم في العلاقة بين الجمهور والسلطة، بل أي  محاولة لاتخاذ مسافة عن عقيدة السلطة وتعليماتها، من قبل فرد أو مجموعة أفراد ينظر إليها كتمرد ولا يقبل النظام التعامل معها إلا بالعنف والبتر من دون نقاش ولا حوار، حتى لو بدر ذلك من شخصيات تابعة للنظام نفسه. لذلك قضى معظم النشطاء جل سنوات حياتهم في أقبية السجون المظلمة ومات بعضهم فيها وعذبوا ونكل بهم، ومن بقي فوق الأرض اضطر إلى الاختباء والاختفاء الإرادي، أو هرب إلى الخارج، والذين اظهروا اعتراضا على حكم الأسرة القاتلة اغتيل معظمهم وفر الآخرون إلى الخارج، أما المثقفون المستقلون فليس أمامهم، حتى لو لم يتعلق الأمر بنقد النظام، سوى الكتابة والعمل في الصحف العربية والأجنبية في الخارج.

حيث وصفت منظمة العفو الدولية سجون النظام بالمسالخ البشرية، أما سوريا فهي في اعتقادي معتقل واسع وشامل شبيه بالغولاغ الذي تحدث عنه الكسندر سولجنتسين في روايته الشهيرة عن معسكرات الاعتقال السوفييتية. 

في هذا المناخ لا يمكن أن تنشأ معارضة ولا أن تقوم أي سياسة أو حياة مدينة من أي نوع، وعندما انفجرت الثورة كان كل فرد شارك من قريب أو بعيد في نشاطها ينظر إلى نفسه على أنه ملك السلطة والسياسة، وأصبح قائداً أو مشروع قائد للدولة والمجتمع. 

يحتاج السوريون إلى زمن أطول ليتعلموا من جديد مصطلحات السياسة بقواعدها ونظمها ومعاييرها، بل مصطلحات إقامة علاقات متوازنة وندية فيما بينهم كأفراد، والتخلص من العادات التي ترسخت في أذهانهم من عهد العبودية مثل الانكفاء على الذات، والأنانية والفردية وانعدام الثقة بالآخر والحسد والغرور والشك بأي فرد حتى الأقرب وعضو العائلة. 

نظام الأسد علم الناس أن كل شيء ممكن ولا شيء ممكن في الوقت نفسه: لا قواعد ولا قوانين ولا تنظيم ولا تجمع ولا تعاون ولا نقاش.

ما هو رأيك بمسار الأستانة وأثره على الملف السوري؟ وهناك من يتهم الحلف الروسي التركي بأنهم حولوا سوريا إلى “بازار” ما هو تعليقكم ؟ 

كان الهدف من مسار أستانة انتزاع القضية السورية من رعاية أو إشراف الأمم المتحدة والإمساك بها من قبل موسكو وطهران، البلدان الممسكان بمخانق سوريا ومصيرها. وقد أشركت تركيا في الأمر من أجل جرها إلى محور روسيا وفصلها عن حلفائها الغربيين التقليديين. وما شجع تركيا على الدخول في التحالف الثلاثي طمعها في أن تجد حلاً لمشكلتها الكردية بالدرجة الأولى، ونتيجة تخلي الغرب عنها وعدم النظر في مصالحها سواء نتيجة حسابات سياساته الإقليمية أو بسبب سياسة أردوغان وتشديده على السيادة والقرار القومي التركي.

وقد نجحت أستانة في قتل مسار جنيف وهذا كان هدفها الحقيقي والرئيس. لكن الولايات المتحدة والغرب عموماً لم يكن راضياً تماماً عن هذا الاختطاف للقضية السورية من قبل الروس، وقد انتظرهم ولا يزال على باب الخروج. 

اليوم يقول لهم لن تستطيعوا الهروب بسوريا لوحدكم، ولن نترككم تفعلون ذلك، وبالمثل لا يعني التمسك بجنيف من قبل الغرب مراعاة حقوق السوريين والسعي إلى إيجاد حل سريع للنزاع الدامي وتلبية الحد الأدنى من مطالب وتطلعات الشعب السوري، لو كان هذا هو الهدف لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه الآن، ولكان الغربيون ضغطوا بقوة منذ السنة الأولى أو الثانية لتطبيق قرارات مجلس الأمن، ولما كان الروس وجدوا طريقا للهرب من الالتزام بهذه القرارات. 

ما يهدف إليه الغرب اليوم من التشديد على جنيف هو ببساطة عدم ترك الروس وحلفائهم يهربون بالكعكة ويتركونهم على حافة الطريق.

 

ماذا عن “اللجنة الدستورية” برأيك هل يمكن أن تثمر المفاوضات الدستورية عن بداية للحل السياسي في سوريا؟

في نظري لا أحد من الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في الحديث عن حل يريد الحل. كلهم يريدون البقاء في الحلبة السورية في انتظار أن ينجح في تغيير المعادلات وموازين القوة ويخرج هو وحده وحلفاؤه بالنصيب الأكبر من الغنيمة، هذا يعني أيضا أن سوريا أصبحت غنيمة، ولم تعد تعامل كوطن لشعب، ولا كشعب له الحق في السيادة والحرية، ولا حتى كمجتمع يستحق المساعدة والتضامن والرعاية الانسانية.

سوريا الآن، كما ذكر في أحد أحاديثه التلفزيونية رئيس الوزراء القطري السابق، “صيدة” يتهاوش أو يتنازع الأطراف على الفوز بها لحسابهم، ولا أحد منهم على عجلة من أمره. يراهن الأمريكيون على الزمن والعقوبات، ويراهن الروس على سلاح الهدم والردع بالإرهاب واللاجئين، ويتحمل السوريون نتائج الحصار والعقوبات الاقتصادية وكذلك نتائج رعاية الإرهاب وحرق الأرض تحت أقدامهم لتحويلهم إلى قوافل لا تنتهي من النازحين والمهاجرين والمقاتلين.

 

كيف ترى المشهد السوري وإلى أين يتجه حالياً، هل يمكن أن يتأمل السوريون بحل قريب لمعاناتهم؟

يقول المثل العربي القديم: في الغابة، إن لم تكن ذئباً تأكلك الذئاب. وقد تبين أن عالم اليوم، بعكس ما تشيعه الأساطير الإنسانوية لما بعد الحرب العالمية الثانية، ليس نظاماً قائماً على شرعة دولية وقانون وأخلاق إنسانية تحترم حقوق الإنسان في الحياة والحرية والسعادة والمساواة والعدالة وإنما غابة حقيقية. هذا هو الذي مكن عصابة اختطفت السلطة في ظروف استثنائية وتحكمت بدولة اسمها سوريا أن تأخذ شعبها رهينة وتذبح أبناءه وتدمر عمرانه وتحرقه انتقاماً لتجرئه على الخروج على الطاعة من دون أن تخشى من شيء أو يصيبها الأذى، حتى بعد استخدام الأسلحة الكيمياوية وتنظيمها حرب إبادة جماعية وتهجير قسري لملايين البشر وتعذيب الآلاف وقتلهم بصورة وحشية في الأقبية والسجون والمعتقلات الدموية.

هذا يعني ببساطة أن مايجري في سوريا منذ نهاية 2012 عملياً، وبعد فشلنا نحن السوريين في توحيد صفوفنا وتنظيم مقاومتنا، هو صراع الدول على تقاسم المصالح والنفوذ في سوريا بعد أن فقد شعبها السيطرة على مصيره وقراره فيها وتحولت إلى غنيمة سائغة لأصحاب النوايا والمشاريع الخاصة. وأن أحداً من هؤلاء لن يتخلى عن حصته منها طالما بقيت منقسمة على نفسها ومتخبطة بدمائها ومشلولة الإرادة.

يدفع السوريون بشكل باهظ اليوم ثمن ترددهم في مواجهة الاستبداد قبل أن يتمكن ويحتوي الدولة والنظام الاجتماعي والعقل الاجتماعي ذاته، ويتحكم بذهنيات الأفراد وردود أفعالهم.

لكن المجتمعات لا تولد أمماً حرة موحدة ومتضامنة تحركها روح واحدة وإنما تصير أمماً في الصراع ضد الاستبداد والاحتلال والاستغلال وجميع أشكال التمييز والاضطهاد والحط من كرامة الأفراد وحريتهم واستقلالهم. وهذا هو الطريق الوحيد لتحولها من حملان وادعة تسلم أمرها لأي قاطع طريق، وتبالغ في تمجيده وتكريمه أملاً بالسلام، إلى مواطنين أحرار، يأبون الضيم ولا يسلمون بأي تمييز أو اضطهاد وعلى استعداد دائم للدفاع عن كرامتهم وحقوقهم، والتضحية بأرواحهم إذا احتاج الأمر لتأكيد سيادة كل واحد منهم. 

هذا ما يعيشه السوريون اليوم وما يغذي الأمل الكبير بأن عهد المهانة، تحت نير الاستبداد أو الاحتلال، وهما حلف واحد، قد ذهب إلى الأبد. صحيح أن شروط الولادة الجديدة لا تزال قاسية لكن في المقابل نبوغ روح الحرية والسيادة عند السوريين الخارجين من تحت أنقاض نظام العبودية يسابق أيضاً الزمن.

 

بعد ابتعادك لسنوات طويلة عن المشهد السوري صف لنا حياتك، أي كيف يعيش الدكتور برهان غليون حياته الآن؟ وإذا كان لديك أي مشروع سياسي تعمل عليه الآن؟

يصعب على أي إنسان أن يعود إلى الوضع الذي خرج منه بعد تجربة عميقة ومثيرة ومؤلمة معاً كما هي تجربة المشاركة في الثورة، التي زادتها قيادة المجلس الوطني فترة تأسيسه وإطلاقه عمقاً وألماً معاً. وقد فشلت محاولتي العودة الفعلية إلى العمل الأكاديمي الذي بدا لي روتينياً ومن دون معنى بعد ذلك. ولم ينقذني من ضياع الهوية بين البحث والسياسة سوى انخراطي في تحرير أول كتاب جمع بين العمل السياسي والعمل الأكاديمي بعد سنوات من المشاركة السياسية على مستويات مختلفة، وهو كتاب “عطب الذات”.

أعتقد الآن أن أحداً لا يستطيع أن يهرب من قدره، وأنا اليوم أقسم نشاطي بين متابعة مسيرة التغيير العظيمة التي تشهدها البلاد العربية وسوريا بشكل خاص، وهي مسألة محورية في تفكيري ونشاطي لدرجة تغيرت فيها علاقاتي الاجتماعية ذاتها، والبحث والكتابة والتأمل في مصير هذه المسيرة ومن ورائها مصير الدولة والمجتمع في هذه الأقطار ومآلاتهما. وآمل أن أنتهي من كتابة بعض هذه التأملات في مؤلف جديد في الأشهر القليلة القادمة.

أخيراً، الدكتور برهان غليون، هو شخصية فكرية وثقافية، هل تعتقد بأنك اخطأت الدخول إلى “المستنقع” السياسي؟

بالعكس، تلك كانت أعظم تجربة يحلم بها مثقف ينتظر الفرصة التي تتيح له العمل لتحقيق المبادئ وتأكيد القيم التي عاش لها وعليها وكرس وجوده لخدمتها، وقد كان تمثيل الثورة السورية العظيمة شرف لي ومصدر فخر وسمو لا مثيل لهما، ولحظة استثنائية وفريدة تركت أثاراً لا تمحى في حياتي وفكري وعواطفي. 

أما السياسة فلم أكن أرى فيها ولا ينبغي أن ننظر إليها كمستنقع، بالعكس هي في نظري علم المسؤولية الجماعية، أي المشاركة في بناء غايات المجتمعات وتنظيم مسيرتها لتحقيقها، ولا تتحول إلى مستنقع إلا عندما تكف عن أن تكون سياسية تلهمها المبادئ والقيم الإنسانية وروح الحرية والعدالة والتضامن والسعادة الإنسانية، وتتحول إلى تجارة يمتهنها رجال درجوا على الأنانية والبحث عن المصالح الشخصية ويتعاملون معها بأساليب الغش والكذب والخداع واستغلال ثقة الناس وطيبتهم. لكنها لا تصبح تجارة يمتهنها الوصوليون إلا عندما يتخلى عنها أصحاب المبادئ الإنسانية والمسؤولية الاجتماعية أولئك الذين يقدمون مصالح المجتمع والجماعة على المصالح الخاصة والشخصية.

لذلك لا ينبغي أن تترك السياسة لهؤلاء، والواقع لم يخض معارك الحرية في التاريخ إلا المثقفين والمفكرين أو السياسيين المثقفين، فلا يمكن لقضية الحرية وسياساتها أن تراهن على أصحاب المصالح الضيقة وتجار المعبد، وفي اللحظات الحاسمة التي رمت فيها شعوب كاملة بنفسها في معركة الحياة أو الموت، أظهر هؤلاء أنهم كالجثة الهامدة التي تعترض طريق التغيير أكثر مما تساعد على تعبيده. 

قد يخطئ المثقفون وقد يفشلون وهذا ينطبق على الجميع، وكل من يقوم بجهد ومبادرة، لأن أحداً لا يضمن نتائج أعماله سلفاً، لكنهم وحدهم القادرين على الارتقاء إلى مستوى معركة المبادئ وقرع أبواب الحرية. والفشل هو المدخل إلى النجاح. وكما قال حافظ ابراهيم “لا تلم كفي إذا السيف نبا   صح مني العزم والدهر أبى”، أو شاعر سوريا الكبير عمر أبو ريشة: “شرف الوثبة أن ترضي العلى غُـلِبَ الـواثبُ أم لـم يُغْلَبِ”.

Exit mobile version