التعليم في شمال شرق سوريا: اختيار بين “الاعتراف” أو “اللغة الأم”

القامشلي – تستذكر الرئيسة المشتركة لهيئة التربية والتعليم في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا كوثر دوكو، في حديثها إلى “ماري”، ما حدث معها قبل 36 عاماً، في أول يوم دراسي لها، عندما حُرمت من شربة ماء لساعات، بسبب حاجز اللغة بينها باعتبارها كردية، وبين مدرستها العربية آنذاك.

هذه الحادثة التي لا تزال عالقة في ذهن دوكو وقعت تفاصيلها في مدرسة حاتم الطائي الابتدائية في محافظة الحسكة شمال شرق سوريا، وبعد عقود لا تزال المدرسة قائمة، ولكن بنظام تعليمي مختلف، إذ صار مألوفاً أن تسمع الكردية والعربية في أرجائها، فالعربية لم تعد اللغة الوحيدة المسموحة فيها كما كان. فوق ذلك يتحدث المعلمون اللغتين، وتتوفر الكتب المدرسية باللغتين أيضاً كما قالت لـ”ماري”.

التعليم متعدد اللغات

في عام 2015 بدأت الإدارة الذاتية بتطبيق سياسة تعليم الطلبة في مناطق نفوذها بحسب لغتهم الأم، بما يضمن لكل طالب حقّ التعليم بلغته رسمياً، مع وجود مناهج خاصة باللغات الموجودة هناك، لكلّ من الأكراد والعرب والسريان، لاغية بذلك نظام التعليم المعتمد في سوريا لعقود، وكما تصفه دوكو بأنه نظاماً تعليماً “عنصرياً”.

نظام التعليم الذي سنته الإدارة الذاتية أتاح للطالبة “فيان”، وهي طفلة كردية في الصف الرابع الابتدائي، التعلم في المدرسة بلغتها الأم خلال سنوات دراستها الثلاث الماضية، ومنذ مطلع العام الدراسي الحالي بدأت بتعلم اللغة العربية كلغة ثانية إلى جانب لغتها الأم. إذ تفرض الإدارة الذاتية على الطلبة في مدارسها تعلم لغة ثانية رئيسية في مناطقها منذ الصف الرابع إلى جانب لغتهم الأم، وبما أن “فيان” كردية يحق لها الاختيار بين العربية والسريانية.

في المقابل، ما تزال الحكومة السورية في مدارسها بمحافظة الحسكة، التي تشترك في السيطرة عليها مع الإدارة الذاتية، تعتمد اللغة العربية كلغة تعليم رسمية ووحيدة، بالإضافة لتدريس اللغتين الإنجليزية كلغتين ثانويتين دون وجود اللغة الكردية.

وإذ يبدي الأستاذ محمد حسن (اسم مستعار) في حديثه مع “ماري” إعجابه بـ”النظام التعليمي المتبع من قبل الإدارة الذاتية، فإنه يعترف بـ”عدم وجود الخبرة الكافية في التدريس لدى المعلمين” رغم أن “معظمهم خضع لدورات تدريبية لدى معاهد الإدارة الذاتية قبل أن يلتحق في التدريس في مدارس الإدارة”.

حسن، وهو مدرس في مدرسة حاتم الطائي التابعة للإدارة الذاتية، بعد أن كان مدرساً في مدارس الحكومة السورية، قال أيضاً بأن قطاع التعليم في مناطق الإدارة الذاتية “يعاني أيضاً من وجود نقص في المناهج الدراسية” كما أنها “بحاجة إلى إعادة تنقيح ومراجعة”.

يذكر أن عدد الطلبة في مدارس الإدارة الذاتية، يبلغ 789.225 طالباً موزعين على 4.137 مدرسة، بحسب إحصائية حصلت عليها “ماري” من الرئيسة المشتركة لهيئة التربية والتعليم في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا كوثر دوكو.

التعليم الحكومي

إحدى مدارس مدينة الحسكة شمال سوريا، تصوير: هوشنك حسن، آذار/ مارس 2020

إلى جانب المدارس التابعة للإدارة الذاتية، يوجد في الحسكة مدارس تتبع لحكومة دمشق، وتنتشر في المربعين الأمنيين بمدينتي الحسكة والقامشلي. إذ يبلغ عدد مدارس الحكومة في شمال شرق سوريا، نحو 38 مدرسة تتوزعان على المربعين الأمنيين، وهما رقعتين جغرافيتين في المدينتين تتواجد فيما الأفرع الأمنية للحكومة، كما قال أحد المعلمين في المجمع التربوي التابع للحكومة في مدينة القامشلي لـ”ماري”.

ويبلغ عدد الطلبة في هذه المدارس نحو 25 ألف طالب، بحسب إحصائية حصلت عليها “ماري” من  مصدر خاص من مديرية التربية والتعليم التابعة للحكومة السورية في الحسكة.

ويعاني الطلبة في هذه المدارس من الأعداد الكبيرة للطلبة في الغرفة الصفية الواحدة، إذ يتروح عدد الطلاب في الغرفة الواحدة بين 54 و 60 طالباً، كما قال لـ”ماري” والد الطالبة ريم، وهي في الصف السابع، وتدرس في مدرسة ثلاج أحمد الثلاج، الواقعة في المربع الأمني بمدينة القامشلي.

ومع هذه المعاناة، إلا أن والد ريم يرى أن ابنته أفضل حظاً من صديقاتها، إذ “فيما تجلس هي في المقعد الثاني، تضطر زميلاتها للجلوس على الأرض لعدم وجود مقاعد كافية”.

وفي محاولة من المديرية التابعة لحكومة دمشق لاستيعاب الطلبة في مدارسها، وزعت الطلبة على ثلاث فترات، تنقسم إلى: الأولى صباحاً، والثانية ظهراً، والثالثة عصراً، كما أنها وضعت غرفاً صفية مسبقة الصنع في ساحة المدرسة لاستيعاب الأعداد، كما قال المصدر من مديرية التربية والتعليم.

ورغم أن الظروف التعليمية في هذه المدارس أسوأ من نظيراتها في مدارس الإدارة الذاتية، إلا أن أولياء الأمور يفضلون هذه المدارس، كون مناهجها معترفة من قبل الحكومة، بعكس مناهج الإدارة الذاتية التي لا تعترف بها الحكومة السورية، كما كشف والد ريم.

مدرسة فواز جولي في مدينة الحسكة، تصوير: هوشنك حسن، آذار/ مارس 2020

حرب التعليم بين الإدارتين

منذ أن طرحت الإدارة الذاتية المناهج الخاصة بها، لم تتقبل الحكومة السورية مناهجها، وفصلت نحو ألف معلم نتيجة التحاقهم بما وصفته “المدارس غير الشرعية”، بحسب ما قال مصدر من هيئة التربية والتعليم في الإدارة الذاتية لـ”ماري”.

لكن، عقب العملية العسكرية التركية “نبع السلام” التي أطلقتها تركيا ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في تشرين الأول/أكتوبر 2019، عُقدت عدة جلسات تفاوضية بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية، لبحث العديد من الملفات حول مصير المنطقة وقوات قسد.

ومن بين الملفات التي نوقشت بين الجانبين ملف التعليم في شمال وشرق سوريا، كما كشف لـ”ماري” مسؤول رفيع المستوى من الإدارة الذاتية، حضر الجلسات التفاوضية مع الحكومة السورية.

وعبر المسؤول الذي طلب من “ماري” عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، عن أمله بالوصول الى صيغة تفاهمية مع الحكومة السورية فيما يخص مسألة التعليم، قائلاً “لقد قمنا بتشكيل عدة لجان تضم ممثلين من الطرفين، وإحدى هذه اللجان هي لجنة التربية وتتلخص مهمتها في الحوار والوصول الى صيغة محددة فيما يخص التعليم”.

إلا أن المسؤول لم يخفِ “صعوبة المهمة” متهماً الحكومة السورية بـ”عدم تقبل فكرة التغيير، والمماطلة في العمل المشترك”. وختم المسؤول “نأمل أن تلعب روسيا دوراً في تحقيق هذا التقارب كون النظام لايزال على عقليته القديمة”.

لذا، فإن ملف التعليم في شمال وشرق سوريا ومستقبل الطلبة هناك، يبقى رهن العلاقة بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية، فطلاب الأولى لا يعملون مصير شهاداتهم، وطلاب الثانية لا يعلمون مصير مدارسهم الضيقة في ظل المفاوضات غير المُبشرة -حتى الآن- ما يعني أن كلاهما أمام مستقبل تعليمي مجهول.

وإلى جانب الحرب التعليمية، التي وقع الطلبة ضحيتها، وجد عدد من الطلبة أنفسهم خارج العملية التعليمية بنوعيها، نتيجة الظروف الاقتصادية، إذ يقدر عدد المتسربين عن التعليم الأساسي في مدارس الحسكة لوحدها نحو 862 طالباً، بحسب ما قال مصدر من المكتب الإعلامي لهيئة الشؤون الاجتماعية التابعة للإدارة الذاتية، طلب من “ماري” عدم الكشف اسمه.

وعزا المصدر سبب التسرب إلى “الحالة المعيشية الصعبة”، من مثل الطفل سليمان، ذو العشرة أعوام، حيث نزح مع عائلته من ريف دير الزور إلى الحسكة، ويعمل في بيع حافظات البطاقات الشخصية (الهويات) في أحد مجمعات النقل في مدينة الحسكة، من أجل تأمين 500 ليرة سورية (0.50 دولار تقريباً) ليسهم في إعالة أسرته النازحة.

**

هذا التقرير هو جزء من ملف خاص لـ”ماري” عن قطاع التعليم للأطفال السوريين.

اقرأ أيضاً: الأطفال النازحون يفقدون تعليمهم في شمال غرب سوريا ومبادرات فردية للتعويض

اقرأ أيضاً: أطفال مخيمات الشمال السوري: البحث عن الدفء والمال في مكبات النفايات

Exit mobile version